"الأحمق" و"رأس الأبله"، أو "الأعور الغبي"... كلها عبارات تحيل إلى حقل تداولي معين وخاص جداً لا يتوقع سماعه في قاعات الدرس. ويستغرب البعض كيف تستخدم تلك الكلمات بين الباحثين المرموقين في الجامعات والمختبرات، ومع ذلك تعتبر تلك العبارات آخر المسميات المبتكرة التي يعطيها العلماء للجينات الجديدة بعد عجزهم عن إطلاق مسمى علمي عليها بسبب افتقاد الأساس العلمي للاكتشافات الجديدة. ولأن اللغة كما يقول عالم "اللسانيات" "ديسوسير" اعتباطية بمعنى انتفاء العلاقة السببية بين الدال والمدلول، فإنه يحق لأي كان أن يطلق على "جينوم" بشري جديد اسماً، حتى ولو بدا غريباً، تماماً كما نمسي القلم قلماً دون وجود علاقة بين الموضوع، أو المادة والاسم المشار به إليها. وإذا كان إطلاق اسم "القلم" على الأداة المعروفة للكتابة ليس سوى عملية توافق عليها المجتمع، فإنه بالمثل يمكن للعلماء أن يطلقوا "الأحمق" على مورِّث معين. ويهدف العلماء من وراء إطلاق تسميات غريبة على اكتشافاتهم الجديدة، وبخاصة في مجال الجينات، إلى تسهيل حفظ الأسماء وتداولها بين الباحثين. فمع الكم الهائل من الجينات التي يتم اكتشافها من قبل العلماء والاختلافات الطفيفة بينها وسهولة رصدها داخل المختبرات، حيث غالباً ما تكفي علامة صغيرة في اللون للتمييز بينها. بيد أن المشكلة تكمن عندما يتم الانتقال من المختبر، حيث يبقى تداول التسميات الغريبة، وفي بعض الأحيان البذيئة محصوراً بين العلماء أنفسهم إلى المجال الطبي، حيث التعامل مع مختلف الشرائح من المرضى. ففي كثير من الأحيان يواجه الأطباء مشاكل حقيقية عندما يضطرون مثلاً إلى إخبار أحد المرضى بأنه يعاني من تشوهات جينية تدعى "القنفذ الصوتي"، أو من مرض آخر مسؤول عنه مورث يسمى "أم المعارك". وفي هذا السياق تقول الدكتورة "سو بوفي"، أستاذة البيولوجيا في جامعة لندن ورئيسة لجنة تسمية الجينات الجديدة في "منظمة الجينوم البشري": "إنها مشكلة حقيقية عندما نريد إطلاع المرضى على نوع الجينات غير السليمة". وتسعى الدكتورة "سو بوفي" إلى إعادة تسمية الجينات المكتشفة حديثاً وإعطائها أسماء أكثر استساغة من قبل الجمهور، وذلك حسب ما أفادت دورية "نيتشر" المتخصصة. والأكثر من ذلك يشير الدكتور "كريس دو"، أستاذ البيولوجيا في جامعة "أوريجون" الأميركية إلى أن هناك جينات مشتركة بين الحيوانات والبشر، حيث يمكن، حسب قوله، أن نعثر على نفس الجينات الموجودة في ذبابة الفاكهة لدى الحمار الوحشي, وقد يعثر عليها أيضاً لدى البشر. ولأن العلماء أطلقوا العنان لمخيلتهم عند اكتشاف تلك الجينات لأول مرة لدى الحيوانات، ولم يراعوا أية قيود، فقد جاءت الأسماء على درجة كبيرة من الغرابة عند إسقاطها على الجينات البشرية لتتراوح بين ما هو غامض مثل "النقانق الهشة" و"الخوف من الخصوصية" إلى أخرى مضحكة مثل "الجميل" و"الرائع" وغيرها من المسميات التي ما أن انتقلت إلى الجينات البشرية حتى اصطدمت بنوع من النفور تفسره التقاليد الإنسانية التي ترفض الاستخفاف بالأمراض، أو تكره الأسماء الغريبة الخالية من المعنى. ومع أن الدكتور "كريس دو" لا يخفي إعجابه ببعض الأسماء الجديدة التي يطلقها العلماء على الأنواع المكتشفة حديثاً من الجينات، ولا يتردد هو نفسه في إطلاق بعض الأسماء مثل "بروسبيرو" و"ميراندا" التي يستقيها من مسرحيات شكسبير الشهيرة، فإنه يقر بخطورة التمادي في ابتكار الأسماء الموحِشة والغريبة. فالجينات التي باتت تحمل أسماء مضحكة قد لا تعبر حقيقة عن الحالة الطبية الخطرة التي يتسبب فيها الجين، أو الوضع الصحي المتدهور للمريض الذي يحمل ذلك الجين. فعلى سبيل المثال، تعتبر النسخة البشرية من مورث "القنفذ الصوتي" الموجود عادة لدى بعض الحيوانات خطير جداً على المستوى الصحي، بحيث يتسبب في تشوهات دماغية، وأخرى على مستوى الوجه قد تحول التسمية إلى استخفاف بالحالة المرضية وعدم مراعاة لشعور المصاب بالتشوه الجيني. ويوضح الدكتور "كريس دو" أن الأمر قد لا يكون محرجاً عندما يتعلق الأمر بتوصيف جينات الحيوانات، كأن ننعتها بـ"الغباء"، أو غيرها من التسميات، لكن عندما يتعلق الأمر بالجينات البشرية وتأثيراتها الخطيرة أحياناً على الصحة البشرية، فإن التسميات الغريبة غالباً ما تقابل بغضب المرضى واستيائهم الشديد. ويضيف الدكتور "كريس دو" أنه بإمكان الطبيب المعالج أن يتحايل على الأسماء الغريبة بأن يطلع المريض عن جذور التسمية وسبب إطلاقها على الجين درءاً لأي إحراج، لكنه يؤكد من جهة أخرى أنه من الأفضل لو تم التخلص من الأسماء الغريبة واستبدالها بأسماء يستسيغها المرضى. واللافت أن دعوة الدكتور "كريس" لتغيير المسميات المزعجة لاقت معارضة من بعض العلماء الذين يتمسكون بالأسماء التي أطلقوها مهما بلغت درجة غرابتها، رافضين أن يتدخل أحد في عملهم أو السعي إلى تغيير أسمائهم الغريبة تلك. جون شوارتز كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ـــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"