لعقود طويلة ظل العلماء وصناع الرأي يتعرضون لإغراء استخدام تفسيرات ثقافية لتبرير المشكلات الاقتصادية. كان آخر من تعرض لمثل هذا الإغراء هو الممثل الكوميدي الأميركي "بيل كوسبي" الذي انتقد بعض جوانب ثقافة الأميركيين من أصل أفريقي باعتبار أن تلك الجوانب الثقافية لها علاقة وثيقة بالمشكلات التي يواجهها هؤلاء بدءاً من الفقر ومروراً بالبطالة وحتى الجرائم. و"بيل كوسبي" ليس سوى الأخير في سلسلة طويلة من النقاد الثقافيين الذين كانوا يتبنون تفسيرات ثقافية للمشكلات الاقتصادية. من هؤلاء النقاد الباحث "تشارلز موراي" الذي ذهب إلى حد القول إن المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها الأميركيون من أصل أفريقي ترجع إلى أسباب "جينية". ومنهم كاتب العمود الصحفي "توماس سويل" الذي أرجع تلك المشكلات إلى "الثقافة الرديئة" للأميركيين الأفارقة كما أن الكاتب "ديفيد بروكس" كتب ذات مرة عموداً طويلاً في "نيويورك تايمز"، يربط فيه ما بين الثقافة والاقتصاد، وهناك كثيرون غيرهم ممن تبنوا طرحاً مماثلاً. وما يمكن أن يقال هو إن مثل تلك الأطروحات والحجج مضللة في أحسن التقديرات ومدمرة في أسؤها. يشار إلى أن ما كانت تبدو عليه الحجة الثقافية أحياناً من وجاهة، كان يرجع إلى قيام الكتاب الذين كانوا يستخدمونها إلى إغفال بعض الحقائق غير المريحة المتعلقة بالاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية. فبعض هؤلاء الكتاب كانوا يقولون إن ثقافة الأميركيين الأفارقة كانت تجعل احتمال معاناتهم من الفقر أكثر من احتمال معاناة الأميركيين البيض الذين يتمتعون بثقافة أفضل من الفقر. والحقيقة أنهم كانوا يتناسون بقولهم حقيقة مهمة، وهي أن نسبة الفقر لدى الأميركيين الأفارقة، قد هبطت بنسبة حادة خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي دون أن يغيروا شيئاً من ثقافتهم "الرديئة". فنسبة الفقر لدى الأميركيين الأفارقة هبطت من 33.1 في المئة عام 1993 إلى 22.5 في المئة عام 2000 أي بنسبة 10.6 في المئة، وهي نسبة كبيرة وتعد هي الأكبر في تاريخهم. لا يمكن بالطبع للحجة الخاصة بـ"ثقافة الفقر" أن تشرح سبب هذه التغيرات، فلا يمكن أن يُقال مثلاً إن السود قد طوروا ثقافة نجاح في حقبة التسعينيات عندما انخفضت نسبة الفقر لديهم ثم هجروها إلى "ثقافة فشل" عام 2001، عندما بدأت نسبة الفقر بينهم في الارتفاع مجدداً. ما حدث في الحقيقة هو أنه خلال عقد التسعينيات، من القرن الماضي كان سوق العمل في حاجة إلى عمالة ماسة، وهو ما أتاح الفرصة للعمال الأقل مهارة ونسبة كبيرة منهم من السود أن يجدوا عملاً. أما بعد عام 2000، فإن معدل تشغيل الأميركيين الأفارقة انخفض بشكل أسرع بسبب تغيرات اقتصادية وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر بينهم بشكل أسرع. النقاد الذين يتبعون هذه الحجة يغفلون أيضاً التمييز ضد الأميركيين الأفارقة في سوق العمل وتفضيل البيض عليهم واتهامهم بأنهم قد أضاعوا الفرص التي وفرتها لهم حركة الحقوق المدنية من بين ايديهم. صحيح أن الفرص المتاحة أمام الأميركيين الأفارقة في الوقت الراهن أكثر من ذي قبل، بيد أن القول إنهم لا يتعرضون للتفرقة في سوق العمل ويحرمون من شغل وظائف معينة هو قول يجافي الحقيقة، ولا يقوم على أدلة راسخة. يبين بحثان حديثان لـ"ديفا بيجر" أستاذ الاجتماع في جامعة "برينستون" أن الرجال الأميركيين من أصل أفريقي الذين كانوا يلتزمون بالقواعد والقوانين ولم يكن لديهم سجل إجرامي كانوا يحصلون على عدد أقل من الوظائف مقارنة بما كان يحصل عليه نظراؤهم من البيض. ليس هذا فحسب بل إن الرجال البيض الذين كان يوجد لديهم سجل إجرامي كانت لديهم فرص في الحصول على الوظائف تفوق تلك المتاحة أمام الأميركيين من أصل أفريقي الذين لا يوجد لديهم سجل إجرامي. وتجاهل مثل هذه الحقائق التي يراها كل ذي عينين يعتبر سبة في جبين الجميع بيضاً وسوداً من الذين كافحوا من أجل حصول السود على حقوقهم المدنية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. لا تعتقدوا لوهلة واحدة أننا سعداء بالتقدم الذي تحقق. فعلى الرغم من أن نسبة الفقر بين السود قد انخفضت الآن مقارنة بما كانت عليه في الماضي، فإن بقاء ربع عدد الأميركيين من أصل أفريقي في حالة الفقر، يعد مأساة قومية بمعنى الكلمة. ولكن القيام خطأ بالربط بين ثقافة السود السيئة والفقر يمنع الأمة من الاعتراف بالنجاح والبناء عليه من أجل خلق المزيد من الفرص الاقتصادية أمام الأميركيين من أصل أفريقي. إن الحجة الخاصة بالفروق الثقافية تبدو أحياناً وكأنها تنجح لأنها تبالغ في إظهار الفروق الثقافية بين الأميركيين البيض والأميركيين من أصل أفريقي، ولكن من يتبنونها ينسون أن الأميركيين البيض والسود قد استمتعوا بـ"عرض بيل كوسبي" في الثمانينيات بنفس الدرجة، وأن الشباب البيض والأميركيين من أصل أفريقي يستمتعون حتى الآن بموسيقى "الراب" بنفس الدرجة.. وما هو أكثر من ذلك هو أن الأميركيين من أصل أفريقي لا يحبون الفقر تماماً كما لا يحبه البيض. إن السجل واضح أمامنا وهو أنه عندما تكون الفرص الاقتصادية متاحة أمام الأميركيين الأفارقة فإنهم لا يترددون في الحصول عليها وعندما تكون تلك الفرص شحيحة فإنهم لا يستطيعون الحصول عليها.. ولكن ليس للثقافة كبير علاقة بذلك. الجيرنون أوستن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عالم اجتماع ومدير معهد "ثورا" الولايات المتحدة جاريد بيرنشتاين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اقتصادي أول بمعهد السياسة الاقتصادية - واشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"