إذا ما نجحت الجهود الراهنة في إخراج حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية المنتظرة إلى النور، فإن ذلك قد يعتبر بداية انعطافة تاريخية حقيقية على صعيد توحيد بوصلة الجهد الفلسطيني المشتت، وصياغة برنامج فلسطيني موحد في الصراع ضد إسرائيل. ما هو أهم من تشكيل الحكومة المرتقبة, على أهميته القصوى, هو ترسيخ وثيقة الوفاق الوطني كأرضية لأي برنامج سياسي أو برنامج مقاومة للفلسطينيين. أهمية هذه الوثيقة التاريخية أنها تخلق قاعدة لرؤية متقاربة وتُنهي, ولو نظرياً في المرحلة الأولى, الانشقاق الرأسي الذي شل الحركة الوطنية الفلسطينية طوال العقدين الماضيين. فخلال السنوات العشرين الماضية تقريباً، تطاحن في الساحة الفلسطينية برنامجان: مشروع التسوية (مدريد/ أوسلو/ فتح) ومشروع المقاومة/ حماس. وكان كل من البرنامجين يشد الواقع الفلسطيني باتجاه معاكس للآخر, سواء على صعيد التفعيل والدفع باتجاه أطروحات وقناعات معينة أو خلق وقائع على الأرض يصعب إن لم يكن من المستحيل تجاوزها. وخلال السنوات الفائتة كانت الإنجازات التكتيكية التي يحققها كل من البرنامجين, على حدة, تتعرض للتآكل السريع بسبب اشتغال البرنامج الثاني في الاتجاه المضاد. ولهذا يمكن القول، وبكل برود أعصاب وأسف أيضاً، إن المحصلة النهائية على الأرض للصراع الاستقطابي كانت مزيداً من التدهور للحقوق الفلسطينية: تضاعف المستوطنات, زيادة تهويد القدس, بناء الجدار العنصري, تشوه صورة النضال الفلسطيني جراء عمليات استهداف المدنيين, تقزم الأهداف الفلسطينية الكبرى إلى بيروقراطيات فاسدة, وسوى ذلك. ولنا أن نتوقع طبعاً أن أنصار هذا البرنامج أو ذاك يرفضون تحمل مسؤولية التدهور متعدد الجوانب ويلومون البرنامج المنافس. لكنهم يتفقون جميعاً على أن التدهور قد حصل وما زال حاصلاً. لم يستطع الفلسطينيون في أعقاب النتائج الكارثية لحرب العراق الأولى عام 1990/1991 صياغة استراتيجية موحدة تستلحق استثمار ما حققته الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعبقرية طبيعتها الشعبية واسعة النطاق. ومنذ انعقاد مؤتمر مدريد، وما تلاه من اتفاقيات أوسلو عام 1993 وقيام السلطة في إثرها تعمق شرخ فلسطيني سياسي واستراتيجي كان من شبه المستحيل أن يسمح لأي تقدم فلسطيني عام أن يتم على صعيد الصراع مع إسرائيل. كانت "المقاومة" و"التسوية" تتلاكمان للقضاء على بعضهما بعضاً, وكان أن أُنهكتا تماماً وفعلاً، وبشكل ما وصلتا معاً إلى هزيمة متساوية قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة في يناير الماضي. تجلت الهزيمة الثنائية للطرفين في المأزق الكبير الذي وصلته كل من "المقاومة" و"التسوية". فـ"المقاومة" ما عاد بإمكانها المضي في عمليات التفجيرات على أسس انتقامية للوحشية الإسرائيلية وحسب, فذلك لا يقدم أي برنامج سياسي مقنع. وكان أن كشفت أطروحات الهدنة ثم التهدئة من طرف واحد وبأكثر من معنى جوهر مأزق برنامج "المقاومة" بأساليبه المعتمدة المعروفة. كما كان من الصعب أن يُختزل تعقيد أسباب ودوافع الانسحاب الإسرائيلي من غزة في حسابات التبسيط الفصائلي بكونه انتصاراً مدوياً للمقاومة ونهجها. أما "التسوية" فكانت هي الأخرى قد استنفدت أغراضها كلها مع الفشل الكلاني على صعيد تحقيق الحقوق الفلسطينية, ثم تقزمت في جانبها الفلسطيني إلى رفض الاعتراف (من قبل أميركا قبل إسرائيل) بأبومازن كشريك في عملية السلام ناهيك عن التقدم ولو قيد أنملة على صعيدها. وتوازى ذلك كله مع التهميش المدمر وغير المسبوق لقضية فلسطين في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر واحتلال العراق وازدحام الأجندة الدولية بقضايا أخرى. لذلك ومن ناحية عملية، كانت الانتخابات التشريعية الفلسطينية فرصة التقاط أنفاس وخروج مؤقت من المأزق الذي واجه البرنامجين. فـ"حماس" التي رفضت خوض انتخابات المجلس التشريعي (وليد أوسلو) عام 1996 هي نفسها التي خاضت، وبكل قوة وإصرار الانتخابات نفسها والمجلس نفسه بعد عشر سنوات. و"فتح" (وبحسب تياراتها المختلفة) التي سيطرت على المجلس التشريعي والسلطة الفلسطينية خلال العقد وأكثر الماضي، كانت تأمل أن تعمل الانتخابات على تشذيب الحركة وإقصاء من اتهموا بالفساد وتشويه صورة السلطة بشكل عام, وبث دم جديد في عروق السلطة المتهالكة. نتيجة الانتخابات (الزلزالية) وما آلت إليه الأمور بعدها هي المرحلة التي ما زلنا نعيشها, والتي تدخل فصلاً جديداً يتمثل في التواضع على وثيقة الوفاق الوطني بين "فتح" و"حماس" والمستقلين وبقية الفصائل الفلسطينية. وكما هي النتائج الانقلابية لأي زلزال، فإن استيعابها كان قد احتاج إلى وقت طويل من كل الأطراف: الرابحين والخاسرين, وأحياناً على حساب ضحايا آخرين (كما حصل خلال الحصار الدولي الذي ضُرب على الحكومة الفلسطينية وكان المتأثر الأكبر منه الأفراد والعائلات الفلسطينية). احتاجت "حماس" تسعة أشهر كي تتأكد أنه ليس بإمكانها تحدي الوضع المحلي والإقليمي والدولي، وتركب شعارات المقاومة على كتف السلطة الفلسطينية التي هي حصيلة توافقات وظروف لا يمكن تفكيكها لفظياً عن جذر "أوسلو" والتسوية التي أنتجتها. واحتاجت "فتح" تسعة أشهر كي تتأكد أنه ليس بإمكانها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء, وأن واقع وجود "حماس" في السلطة الفلسطينية كشريك دائم صار حقيقة من حقائق الوضع الفلسطيني الحالي والدائم. صحيح أن الشهور التسعة التي مرت كانت قاسية على الفلسطينيين, لكن إن كانت النتيجة النهائية هي تحقق القناعة المتبادلة بعدم إمكانية, إن لم نقل استحالة, استفراد برنامج "حماس" أو "فتح" بالمصير الفلسطيني، فإن ذلك يعتبر إنجازاً وطنياً كبيراً. وهنا بالضبط تأتي أهمية "وثيقة التوافق الوطني"، ذاك أنها التعبير الأبرز والمرير والمشترك والإيجابي عن تلك القناعة. من الآن فصاعداً, وتبعاً للوثيقة, يفترض أن يصبح للفلسطينيين برنامج سياسي موحد: إما أن يقاوموا معاً أو يساوموا معاً. وهنا وفي هذه الحالة فقط يصبح تطبيق أية استراتيجية من الاثنتين وبحسب التوقيت والظروف له معنى ووقائع ثابتة على الأرض وإمكانية لتحقيق إنجازات ما. ولهذا السبب تحديداً يجب ألا تفلت الأهمية الاستراتيجية والتاريخية لهذه الوثيقة, وألا يُنظر لها نظرة تكتيكية قصيرة المدى هدفها الخروج من المأزق الحالي وتكوين حكومة وحدة وطنية في الظرف الراهن فحسب. القلق الحقيقي والمشروع الذي يمكن أن يشعر به الفلسطينيون، هو تجاوز هذه الوثيقة في مرحلة ما والعودة إلى الاستقطاب "الحمساوي- الفتحاوي" مرة ثانية, والعودة إلى وهم تجريب ما قد سبق وجُرِّب وفشل.