هذه أيام عصيبة بالنسبة لـ"المحافظين الجدد"، فالهزيمة الساحقة التي مُني بها الحزب "الجمهوري" في السابع من شهر نوفمبر الجاري أشَّرت على رفض الرأي العام الأميركي للسياسات غير الشعبية في العراق، وبخاصة للأيديولوجية المرتبطة بـ"المحافظين الجدد". والنتيجة المباشرة كانت رحيل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، حليف "المحافظين الجدد" في الإدارة الأميركية، ومجيء شخصيات لعبت دوراً فاعلاً في إدارة الرئيس بوش الأب مثل وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر المتزعم لجهود البحث عن سياسة بديلة في العراق، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق روبرت جيتس الذي رشح لتولي منصب وزير الدفاع خلفاً لدونالد رامسفيلد. وهو التغيير الذي دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الرئيس بوش سيعمد في المرحلة المقبلة إلى التخلص من نفوذ "المحافظين الجدد". فهل "المحافظون الجدد" حقاً إلى زوال؟ لا أعتقد ذلك فالأفكار التي يستند إليها "المحافظون الجدد" أثبتت صحتها في أكثر من مناسبة ومن خلال مجموعة من القضايا المهمة بدءاً من الحرب الباردة وليس انتهاء بحرب البوسنة وتوسيع حلف شمال الأطلسي. ولم تهتز صورة "المحافظين الجدد" إلا خلال الحرب في العراق إما بسبب الأداء السيئ للبيت الأبيض في إدارة الحرب، وإما بسبب التخطيط غير المحكم الذي صاحبها. ولكن حتى لو تبين أن الحرب في العراق كانت خطأ كبيراً فإن ذلك لا يعني أن ثقة "المحافظين الجدد" في الديمقراطية كترياق للأمراض والعلل التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط ليست صحيحة وفي محلها، ولا يعني أيضاً أن المزج بين القوة والمثالية كما يعتقد "المحافظون الجدد" أسلوب خاطئ. لذا فإن تيار "المحافظين الجدد" لم يمت بعد، ويمكن إحياؤه مجدداً وإعادته إلى الواجهة لأنه حتى اليوم لا يوجد من ينافس أفكاره، أو يزاحمها، وستظل الملهم الأساسي للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وفي غيره من المناطق. لكن دعوني أعترف في البداية بأنني شخصياً من "المحافظين الجدد" الأشد إخلاصاً لأفكارهم. ولكي أبيِّن لكم لماذا ستستمر تصورات هذا التيار في الازدهار سأفسر لكم المعنى الحقيقي لمفهوم "المحافظين الجدد". فقد كنا نحن "المحافظين الجدد" جماعة صغيرة من المفكرين السياسيين الذين انفصلوا عن الليبراليين إبان الحرب في فيتنام بسبب اعتقادهم بأن الولايات المتحدة إنما دخلت الحرب كما أعلن عن ذلك الرئيس جيمي كارتر نتيجة "خوف مبالغ فيه من الشيوعية". وفي مقابل ذلك اعتبرنا نحن أن الشيوعية شر مطلق وخطر يحدق بالولايات المتحدة. وبسبب إصرارنا على رأينا المناوئ للاتحاد السوفييتي خرجنا من المعسكر الليبرالي وأطلق علينا حينها "المحافظون الجدد" كمسمى قدحي في البداية، لكننا استسلما له دون مقاومة. وهكذا حملت سياسة الرئيس رونالد ريجان الصارمة تجاه الاتحاد السوفييتي آثار "المحافظين الجدد"، وخلال فترة رئاسته انضم العديد من تيارنا إلى الحزب "الجمهوري". فقد اعتقدنا في ذلك الوقت أن سياسات الرئيس ريجان هي من سيضمن لأميركا النصر في الحرب الباردة. وبانتهاء تلك الحرب التي ارتبطت بظهور "المحافظين الجدد" واتخاذهم لها قضيتهم الأولى اعتقد الكثيرون أن أيامهم قد ولت ولم يعد لوجودهم أدنى مبرر. لكن مع بروز أزمة البوسنة بدأت تنتعش مجدداً أفكارنا. فرغم أنه لم يكن من البديهي التقاء الأشخاص الذين اتفقوا خلال الحرب الباردة، إلا أنهم وجدوا أنفسهم يفكرون بالطريقة ذاتها حتى بعد انتهاء تلك الحرب وظهور مشاكل جديدة في منطقة البلقان. وهكذا بدا وكأن "المحافظين الجدد" يساندون مجدداً التدخل الأميركي في البوسنة، حيث اجتمعنا مرة أخرى ليس على أساس برنامج موحد، بل على أساس اختلافنا مع الأفكار التقليدية للمحافظين واللبراليين على حد سواء. فقد كانت أزمة البوسنة في أعين المحافظين التقليديين، رغم فداحة التكاليف الإنسانية، قضية بعيدة عن المصالح الأميركية المباشرة وبالتالي فهي لا تبرر الثمن في الأرواح والأموال الذي قد تضطر الولايات المتحدة إلى دفعه. ومن ناحيتهم لم يكن الليبراليون يوافقون على استخدام القوة العسكرية بدون ترخيص من الأمم المتحدة، واعتقدوا أن ممارسة الضغط على الصرب كفيل لوحده بوقف الحرب. غير أننا اعتقدنا أن تصور نجاح الجهود الدبلوماسية أمر يقترب من السذاجة. وباختصار كان "المحافظون الجدد" خلال سنوات التسعينات أكثر مثالية من المحافظين التقليديين، وأكثر نزوعاً إلى التدخل العسكري من الليبراليين. ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر 2001 لتزعزع الهدوء النسبي الذي ساد العالم بعد الحرب الباردة لتواجه الولايات المتحدة خطراً محدقاً يحتاج إلى استراتيجيه للتصدي له ودحره. ولم يكن هناك اختلاف كبير بين مختلف المدارس الأيديولوجية حول ضرورة القضاء على "القاعدة" وقتل أسامة بن لادن، كما أن الجميع كان متفقاً بأن الخطر يتعدى رجلاً واحداً، وتنظيما بعينه، وبأن هجمات 11 سبتمبر لم تكن في الواقع سوى واحدة من سلسلة من الهجمات قد تتعرض لها الولايات المتحدة. وفي خضم التعامل مع الهجوم قفزت مجموعة من الأسئلة إلى الواجهة من قبيل: لماذا يظهر بعض الشبان من الشرق الأوسط استعداداً منقطع النظير لتفجير أنفسهم من أجل قتل الأميركيين؟ وماذا يمكننا القيام به لتغيير ذلك؟ بالنسبة لليبراليين كان لابد من معالجة الجذور العميقة للإرهاب المتمثلة في الفقر والشعور باليأس. لكن "المحافظين الجدد" اعتبروا هذه المقاربة غير مُقنِعة، لاسيما وأن منفذي هجمات 11 سبتمبر لم يكونوا بالضرورة كلهم فقراء، واقترحوا كبديل تغيير مجمل الثقافة السياسية في الشرق الأوسط باعتبارها تتحمل جزءاً من المسؤولية عن تفشي خطاب الإرهاب، والتبشير بالديمقراطية هناك. ورغم الطموح الكبير لهذا المسعى إلا أنه أثبت جدواه في مناطق أخرى من العالم سواء في أوروبا الشرقية، أو في شرق آسيا، حيث انتعشت الديمقراطية وتراجع العنف السياسي إلى أدنى مستوياته. وقد فكرنا بأنه إذا نجحت الديمقراطية في مناطق أخرى فإنها أيضاً كفيلة بمعالجة آفة الإرهاب في الشرق الأوسط. وخلاصة القول إن ما يجري في العراق حالياً من تعثر للاستراتيجية الأميركية لا علاقة له بأفكار "المحافظين الجدد" بقدر ما هو مرتبط بالتنفيذ الخاطئ وبانعدام الكفاءة في إدارة الرئيس بوش نفسه. جوشوا مورافيك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أكاديمي في معهد "أميركان إنتربرايز" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست "