مازالت العمليات العسكرية الإسرائيلية متواصلة في قطاع غزة دون هوادة، حيث كانت آخر حلقاتها الدموية العملية الأخيرة التي نفذها الجيش الإسرائيلي في القطاع وأطلق عليها إسماً يوحي بالاحتقار واللامبالاة تمثل في "غيوم الخريف". فمنذ بدء العملية في شهر يوليو الماضي لقي المئات من الفلسطينيين حتفهم أغلبهم من المدنيين العزل الذين لم يشاركوا في إطلاق الصواريخ على إسرائيل، ولم ينخرطوا في أي عمل عسكري ضد الدولة العبرية. واللافت أنه في خضم الهجمة الإسرائيلية على قطاع غزة، ومع وقوع كل هذا العدد الكبير من الضحايا الأبرياء، لم تثر تلك الأحداث نهم الإعلام الدولي الذي ظلت تغطيته لما يجري دون المستوى المطلوب، خلافاً لتغطيتها المكثفة لحرب لبنان الأخيرة. وسائل الإعلام الغربية وغيرها بدت وكأنها تدعو الجمهور إلى التعود على العمليات الإسرائيلية، باعتبارها أحداثاً عادية لا ترقى إلى خبر يستحق نقله للعالم. ويبدو الأمر أيضاً، وكأن مصير الفلسطينيين لم يعد يهم أحداً في الساحة الدولية، بالرغم من العنف الذي يمارس ضدهم من قبل آلة عسكرية شرسة لا تفرق بين الأطفال والكبار. وحتى القوى الكبرى لم تعد تدعي السعي إلى حل الصراع وإحلال السلام بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية. والأكثر من ذلك أن الوضع الإنساني المتردي في الأراضي الفلسطينية، وبخاصة في قطاع غزة، الذي يتعرض سكانه لهجمة عسكرية شرسة لم يعد يحرك مشاعر الشعوب الأخرى في ظل غياب حقيقي لأي ضمير أخلاقي ينتبه لما يجري ويسعى إلى استدراك الأخطاء الكبيرة التي تحدث في الأراضي الفلسطينية وتهدد باتساع رقعة العنف وانفجار الغضب الفلسطيني ليؤثر ليس فقط على فلسطين، بل يمتد إلى عموم منطقة الشرق الأوسط. ولو جرت هذه الاعتداءات التي يتعرض لها الفلسطينيون قبل سنوات قليلة فقط لتسببت في رد فعل دولي قوي، يدين إسرائيل ويجبرها على تغيير سياساتها تجاه الفلسطينيين. لكن لا شيء من ذلك يجري اليوم، وكأن المجتمع الدولي قد منح إسرائيل شيكاً على بياض لتمعن في سياساتها الحالية القائمة على القوة العسكرية وتغييب أية إمكانية لحل دبلوماسي يضع حداً للعنف المستفحل في المنطقة. وبالنسبة لهؤلاء الذين عقدوا الآمال العريضة على انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة في تدشين عهد جديد من التعايش بين الطرفين، قائم على إنهاء الاحتلال وإرجاع الأرض إلى أصحابها مقابل التزام الفلسطينيين بوقف العنف، فقد شهدت الشهور الأخيرة، التي تلت الانسحاب صدمة قوية لآمالهم. فالوضع الراهن في غزة أسوأ بكثير مقارنة مع ما كان عليه الحال قبل الانسحاب الأحادي لإسرائيل، حيث تحولت إلى سجن كبير مغلق براً وبحراً، بل وحتى جواً ولا ينقصه سوى قضبان من حديد ليصبح معتقلاً حقيقياً، ينغلق على جميع السكان الذين يعيشون داخل غزة. فرغم الانسحاب الرسمي للقوات الإسرائيلية، فإن الأهالي في غزة لا يستطيعون الخروج للبحث عن العمل، كما يمنع عنهم فتح المنافذ لتصدير منتجاتهم الفلاحية، فضلاً عن معاناتهم اليومية للهجمات الجوية الإسرائيلية التي تروع أطفالهم وتحول حياتهم إلى جحيم حقيقي. وإذا كانت المساعدات الدولية مازالت تصل، وإن عبر قنوات غير رسمية، إلى الفلسطينيين بسبب رفض المجتمع الدولي التعامل مع حكومة "حماس" ومطالبتها أولاً بالاعتراف بإسرائيل كشرط لاستئناف المساعدات، إلا أن ذلك لا يخفف من وطأة الحصار الاقتصادي المفروض على الفلسطينيين حكومة وشعباً دون تمييز. ولا تعتبر المساعدات القليلة التي يتلقاها الفلسطينيون حالياً مِنة، أو صدقة من الدول الغربية، بل هي حاجة مُلحة لتعويضهم عن الآثار المدمرة للحصار في ظل غياب أي نشاط اقتصادي يبعد عنهم شبح الفقر والعوز. وهو شبح ما كان له أن يهدد الفلسطينيين، ويخيم فوق رؤوسهم لو رفع عنهم الحصار الاقتصادي الخانق وسمح لهم بممارسة أنشطتهم الاقتصادية بشكل عادي. ولعل أكثر ما يلفت النظر ويبعث على الاستغراب، هو الصمت المريع الذي قوبل به دخول السياسي المتطرف "أفيجدور ليبرمان"، زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" العنصري إلى الحكومة الإسرائيلية، من دون أن يثير ذلك أية ردود فعل دولية. يشار في هذا السياق إلى أن انضمام الحزب المتشدد إلى الحكومة الإسرائيلية، جاء كإحدى تداعيات الحرب الإسرائيلية ضد لبنان وسعي إيهود أولمرت إلى تقوية حكومته التي تسرب إليها الضعف بعد أدائها السيئ خلال المواجهة مع "حزب الله". والمفارقة أن الحرب الأخيرة التي أظهرت عقم الحل العسكري وعدم قدرته على تحقيق الأهداف الإسرائيلية لم تغير من عقلية الدولة اليهودية التي سارعت إلى ضم أحد "الصقور" المعروفين بعدوانيتهم تجاه العرب كنائب لرئيس الحكومة مكلف بالشؤون الاستراتيجية. ولمن لا يعرف "أفيجدور ليبرمان" الذي انضم حديثاً إلى الحكومة الإسرائيلية الموسعة، فهو سياسي ليس كباقي السياسيين. فحسب المؤرخ الإسرائيلي البارز "زئيف ستورنهيل" الأستاذ في الجامعة العبرية، يعتبر ليبرمان "الرجل السياسي الأكثر خطورة في تاريخ إسرائيل". فقد سبق وأن توعد "ليبرمان" عام 2001 بقصف "بيت جالا" وطهران والقاهرة، بل وحتى سد أسوان في حال تنفيذ الفلسطينيين لهجوم على الدولة العبرية. وفي 2003 نقل عنه قوله بشأن الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين الذين يقبعون في السجون الإسرائيلية "من الأفضل إغراق المعتقلين في البحر الميت لأنه أخفض نقطة على وجه الأرض". والأكثر من ذلك دعا "أفيجدور ليبرمان"، الملقب "بقيصر راسبوتين"، نسبة إلى أصوله السلافية، الجيش الإسرائيلي إلى تطبيق نفس الأساليب التي ينتهجها الجيش الروسي في الشيشان. ورغم تقديم وزير الثقافة "عوفير بنيس باز" استقالته احتجاجاً على دخول حزب "إسرائيل بيتنا" إلى الحكومة، فإن هذه الاستقالة ظلت ردة فعل معزولة لا تعبر عن التيار العام. وحتى الدول الأوروبية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها عند وصول الحزب "اليميني المتطرف" في النمسا إلى السلطة فإنها لم تحرك ساكناً عندما انضم "أفيجدور ليبرمان" الأكثر تطرفاً منه إلى الائتلاف الحكومي الإسرائيلي وآثرت التزام الصمت المُطبق.