خرج دونالد رامسفيلد من "البنتاجون" أخيراً, وهو يجر ذيول فشل ذريع لم يسبقه إلى مثله وزير دفاع آخر. فشل رامسفيلد يتضاءل إلى جواره ما مني به وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت ماكنمارا الذي ظل الرأي العام في الولايات المتحدة يختزن عنه لفترة طويلة أسوأ الذكريات باعتباره مهندس الحرب الفاشلة في فيتنام. ولكن رامسفيلد لم يكن مجرد وزير مسؤول عن شؤون الحرب في الدولة العظمى الأولى. فقد كان هو الذي حدد الاتجاه الرئيس للسياسة الخارجية وليس فقط لسياسة الحرب. كما أن المرحلة التي تولى فيها قيادة "البنتاجون" ليست عادية. ولذلك لم يقتصر فشل رامسفيلد على العراق. فالأوحال التي غرقت فيها قواته هناك ليست إلا المظهر الأكثر سفوراً لفشله, والصورة الأشد وضوحاً لإخفاق الحرب التي قادها. أما الفشل الذي قد يكون أكثر إيلاماً له شخصياً فهو ذلك الذي منيت به نظريته بشأن الحرب الحديثة في عصر ثورة المعلومات والاتصالات. فقد أخذ معه تلك النظرية التي بدا, يوم إسقاط صنم صدام حسين في 9 أبريل 2003, أنها دشنت عهداً جديداً في عالم العمليات العسكرية. ولكن لم تمض أسابيع حتى تبين القصور في نظرية رامسفيلد... ذلك القصور الذي أخذت معالمه تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم. وتتلخص هذه النظرية التي بنى رامسفيلد الاستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق عليها, في أن التقدم الهائل في تكنولوجيا السلاح ونظم الاتصالات تجعل الحرب مختلفة نوعياً عما كانت عليه في القرن الماضي. فالحرب الحديثة, وفق نظرية رامسفيلد, فضائية أكثر منها أرضية. والقوة الضاربة فيها جوية أكثر منها برية. فهذه حرب لا تحتاج إلى تجييش جيوش هائلة على الأرض, بمقدار ما تقتضي سيطرة كاملة على الجو. فالأساس فيها قوات أقل عدداً وتقنية أكثر تقدماً... قوات خفيفة الحركة سريعة الانتشار عالية التسليح جيدة التدريب ذات قدرة مرتفعة على المناورة والالتفاف والاختراق اعتماداً على منظومة الكترونية متقدمة تتيح لها أن تعمل كشبكة متناغمة الأداء. ونظرية, هذا هو إطارها العام, تمثل انقلاباً كاملاً على النظرية التقليدية التي تقوم على دور محوري للقوات البرية. هذا الدور تراجع -عند رامسفيلد- لمصلحة دور القوات الجوية وقدرتها على تحقيق سيادة كاملة في الجو. لقد اعتقد رامسفيلد أن هذه السيادة إنما تسهل مهمات القوات البرية. وعندئذ تستطيع فرقتان ميكانيكيتان فقط, ومعهما فرقة قوات خاصة محمولة جواً (مارينز), أن تحقق الأهداف العملياتية في مسرح عمليات شديد الاتساع بحجم دولة كبيرة كالعراق. الفكرة التي تقوم عليها نظرية الحرب الحديثة هذه تبدو براقة. كما أنها لا تفتقد المنطق, وإلا فما جدوى التقدم الهائل الذي حدث, ويحدث, في تكنولوجيا السلاح والاتصالات. غير أن هذا لم يكن كافياً لنجاح تلك النظرية في اختبار صعب ازدادت صعوبته عندما دخله رامسفيلد دون أن يدرس جيداً ما وراء مسرح العمليات العسكرية, أي المجتمع العراقي الذي ستكون له الكلمة النهائية في الحكم على نتائج الحرب. ولكن هل يعني ذلك أن المشكلة لم تكن في نظرية الحرب لدى رامسفيلد في حد ذاتها, وإنما في الميدان الذي طبقت فيه وخصائصه الاجتماعية والسياسية؟ الإجابة الراجحة هي أنه من الصعب الفصل بين نظرية الحرب وتطبيقها الميداني. فقد رسب رامسفيلد في أول اختبار حقيقي لنظريته، لأن لهذا الاختبار جانبين ذكر هو أحدهما فقط (النظري) وأهمل الآخر, فكان مثل طالب الطب الذي قرأ جيداً المنهج الدراسي دون أن يذهب إلى درس التشريح العملي مرة واحدة, أو مثل دارس في مجال الحاسب الآلي قرأ كتباً بالغة القيمة ولكنه لم يفتح الجهاز مرة ويدرب نفسه عليه. وليست هذه هي المرة الأولى التي يفشل فيها تطبيق نظريات عسكرية جديدة في أول حرب تطبق فيها. فقد حدث ذلك, في المحصلة النهائية, لنظرية الحرب الخاطفة مثلاً عندما طُبقت في الحرب العالمية الثانية فحققت نجاحاً في البداية عندما هزت أركان بعض الدول الصغيرة, ولكنها أخفقت في الدول التي تملك عمقاً استراتيجياً. والعبرة هي بالمحصلة. فقد نجحت الحرب المستندة على نظرية رامسفيلد في إسقاط النظام العراقي السابق بسرعة فاقت أكثر التوقعات تفاؤلاً, ورغم حدوث نوع من الارتباك في الأداء العسكري الأميركي خلال الأسبوع الأول في الحرب. كان هذا الارتباك دالاً على خلل أساسي في نظرية الحرب الجديدة, لأنه نجم عن إرهاق قوات قليلة العدد كان عليها أن تتحرك بسرعة في مسرح عمليات واسع, وأن تجتاز أكثر من ثلاثمائة كيلومتر من جنوب العراق إلى بغداد, بدون خطوط إمداد كافية ومحصنة, الأمر الذي فرض وقفة قصيرة خلال الأسبوع الثاني. ومع ذلك, بدا هذا القصور كما لو أنه طارئ, وليس جوهرياً, عندما استأنفت القوات الأميركية تقدمها وبسرعة شديدة -عقب الوقفة القصيرة- مما أتاح لها دخول بغداد قبيل انتهاء الأسبوع الثالث. وما أن سقطت بغداد حتى بدت نظرية رامسفيلد فتحاً جديداً في نظريات الحرب, وتراجع معارضوها الذين كانوا قد شنوا على صاحبها هجوماً عنيفاً خلال الأسبوع الثاني في الحرب، حين كانت قواته تلتقط أنفاسها فيما أُطلق عليه الوقفة القصيرة. ولم لا تكون فتحاً وهي التي أتاحت تغييراً كبيراً أسقط بغداد بأقل من نصف القوات البرية التي استُخدمت في "عاصفة الصحراء" قبل 12 عاماً. غير أن هذا الفتح الذي ترتب على دخول بغداد في فترة قصيرة, كان قصير العمر بدوره. فقد تبين, على الفور, أن الخلل في بنية نظرية رامسفيلد للحرب الحديثة أعمق من أن يحجبه إسقاط صنم صدام حسين في قلب بغداد. فقد ظهرت عيوب خوض الحرب بقوات قليلة العدد لا تستطيع حفظ الأمن والنظام بعد انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية. وأخفق رامسفيلد في تصور حجم القوات الضرورية لتأمين الوضع في العراق حتى لا يتحول الإنجاز الذي وفرته السيادة الجوية الكاملة إلى فشل على الأرض. ولم تكن لدى رامسفيلد الشجاعة اللازمة للاعتراف بهذا الخلل. ظل يراهن على إمكان استعادة السيطرة على الوضع الذي أخذ ينفلت يوماً بعد يوم إلى أن أصبح العراق مستنقعاً غرقت فيه قواته. فالاعتراف بالخلل الناجم عن قلة عدد القوات يساوي إقراراً بفشل نظريته. ومن شأن هذا الخلل الناجم عن قلة القوات البرية أن يقوض نظرية رامسفيلد في جوهرها، بغض النظر عن أي متغيرات أخرى. فربما لو أنه درس الوضع في العراق جيداً قبل الحرب, لكان الوضع قد اختلف بدرجة أو بأخرى. غير أن اختلافاً كبيراً ما كان ممكناً دون أن يخرج من دراسة الوضع العراقي بنتيجة مؤداها أنه يحتاج إلى عدد أكبر من القوات البرية. وهذه النتيجة تضعف نظريته، إن لم تقوِّضها. وهكذا أثبتت تجربة رامسفيلد في تطبيق نظريته أن التقدم التقني الهائل والمتزايد في تكنولوجيا السلاح والاتصالات لا يكفي بعد للحد من دور المقاتل على الأرض. وقد ثبت ذلك مجدداً في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. فهذه الحرب التي فشلت في تحقيق أي من أهدافها وانتهت بما يشبه الهزيمة, هي تطبيق آخر لنظرية رامسفيلد التي كان سلاح الطيران الإسرائيلي قد اعتمدها ثم تبنتها القيادة العسكرية. وكان ذلك قبل أن يتولى "دان حالوتس" رئاسة الأركان في فبراير 2005. ولذلك لم يكن حالوتس هو الذي فرض خطة حرب يوليو 2006 متأثراً بخلفيته كقائد سابق لسلاح الجو، بخلاف ما ذهب إليه بعض المراقبين العرب. فقد اعتمد عدوان يوليو 2006 على السيادة الجوية الكاملة, في تطبيق فاشل آخر لنظرية رامسفيلد. شنت القوات الإسرائيلية تسعة آلاف طلعة جوية دون جدوى. كما أن الضعف الواضح في أداء القوات البرية في الاشتباكات التي حدثت في جنوب لبنان، كان نتيجة عوامل عدة؛ أهمها زيادة الإنفاق على سلاح الجو على حساب تدريب القوات البرية. من هنا سيكون لغياب رامسفيلد أثر يتجاوز الولايات المتحدة التي ربما يكون قادة قواتها البرية أكثر سعادة لفشله من قادة "الحزب الديمقراطي" وغيرهم من خصومه السياسيين. فالنظرية التي أخذها معه, ضمن متعلقاته الخاصة, كانت تهدد قادة القوات البرية لأنها تؤدي إلى تقليص دور هذه القوات. ولذلك كانوا هم أول من عارض تلك النظرية عندما طرح رامسفيلد مسودته الأولى بشأنها عام 2001, مستهدفاً خفض الفرق الميكانيكية والمشاة في الجيش الأميركي من عشر إلى ثماني, أي إلغاء نحو 20% من القوات البرية.