ما تحمله هذه الأسطر لا يتعدَّى كونه تلخيصاً موسَّعاً نسبيّاً، وبقدر من التصرُّف الذي يمليه التوضيح، لمقالة نشرتها صحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانيّة في 12/11/2006 للكاتب "جون لويد"، بعنوان "صعود المحافظين اللاهوتيّين – بعض العلمانيّين يجدون أن الكنيسة تتصرّف، وعلى نحو متزايد، بوصفها حاميهم النهائيّ". وسبب ترجمة المقالة هذه هو التعريف بالظاهرة الجديدة، أي "المحافظين اللاهوتيّين" Theo - Cons، التي لم يظهر، في حدود علمي، ما يشير إليها أو يعرّف بها في اللغة العربيّة. وهذا مع العلم أننا ربما كنّا نعيش راهناً أفول "المحافظين الجدد" Neo - Cons ممن لعبوا دوراً سياسيّاً وتنظيريّاً شديد الأهميّة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش المستمرّ، لاسيّما في ولايته الأولى والحربين اللتين شهدتهما تلك الولاية، في أفغانستان والعراق، من ضمن سياق "الحرب على الإرهاب". فهل نحن حقّاً أمام "محافظين لاهوتيّين" يجلسون، بقدر من الاختلاف، على المقاعد التي جلس عليها من قبل "المحافظون الجدد"، ويشاركون من الآن فصاعداً في صياغة الأجندة الثقافيّة لأوروبا الغربيّة والشماليّة فضلاً عن الولايات المتّحدة؟ يردّ "جون لويد" الأمر برمّته إلى "صراع الحضارات"، تلك الفكرة التي طوّرها في مطالع التسعينيات من القرن الماضي بروفيسور جامعة هارفارد الأميركيّة صموئيل هنتينغتون، والتي أسالت الكثير من الحبْر فيما استقبلتها أوساط وبيئات عدّة بالتحفّظ، إن لم يكن بالعداء السافر، في الولايات المتّحدة كما في أوروبا وبلدان "العالم الثالث". ويرجع مصدر هذه السلبيّة، في الدرجة الأولى، إلى رفض النقّاد والمحتجّين الإقرار بوجود ذهنيّات متعارضة في عالم ينحو إلى كوسموبوليتيّة متعاظمة وتداخُل يطاول سائر مستويات الوجود الاجتماعيّ. على أيّة حال، بات يبدو الآن، على ما يرى "جون لويد"، أن هذه الفكرة صائبة، ليس بوصفها نعتاً لما يجري بل بوصفها إشارةً إلى ما قد يجري أو تلويحاً به. فالحضارات العالميّة، التي يعتبر هنتينغتون أنها ذهنيّات جماعيّة تتمحور حول أديان وتواريخ وتجارب مشتركة، تستطيع أن تتعاون، بل تستطيع أن تندمج ببطء واحدتها في الأخرى، بقدر ما تستطيع، في المقابل، أن تحافظ على تناقضها ذاهبةً به إلى مزيد من عدم التفاهم، لا بل من الخصومة أيضاً. ويلوح للكاتب البريطانيّ أن "المسيحيّة الغربيّة" و"الإسلام الشرقيّ" إنما ينظر إليهما راهناً عدد متعاظم من أبناء الوسطين بوصفهما متعارضين على نحو يصعب اجتنابه. وفي الشهر الماضي بدا أن العلاقات بينهما بلغت نقطة اللاعودة في عديد البلدان الأوروبيّة، حيث شرعت الحكومات في وضع حدود "غربيّة" (أي، بهذا المعنى، علمانيّة) على مواقف ونشاطات "شرقيّة" (دينيّة ومتعلّقة بالشريعة) عبر اعتماد القوانين الزمنيّة ووضعها موضع التطبيق. وهذا ما وجد تعزيزه في نتائج استقصاءات الرأي العام التي أظهرت تصلّب الجمهور الأوروبيّ، في صورة عامّة، حيال عدد من القضايا المهمّة التي تمتدّ من الهجرة غير الشرعيّة في أسبانيا وأيطاليا إلى اعتمار النقاب في مؤسّسات العمل ببريطانيا. أمّا قادة المنظّمات الإسلامية الذين ردّوا سلوك الإسلام الأوروبيّ إلى أخطاء السياسيّين الغربيّين وقصورهم فباتت المراكز الأوروبيّة النافذة تبدي استعدادات أقلّ فأقلّ للاستماع إليهم وإلى تظلّمهم. ذاك أن ما يحصل اليوم هو، في رأي الكاتب البريطانيّ، سعي حثيث إلى إنعاش رأيّ عام مسلم معتدل، إن لم يكن إلى خلقه أصلاً. وثمة أمر آخر يجري الآن بفعل الضغط نفسه، وهو ما قد تُكتب له حياة أطول زمناً. فقد ظهرت طبقة جديدة من المثقّفين تحمل اسماً خاصاً بها: "المحافظين اللاهوتيّين". أمّا الذي سكّ التسمية هذه فهو الصحافي وعضو مجلس الشيوخ الإيطالي "أنتونيو بوليتو"، وأمّا المقصودون بها فهم أولئك الشخصيّات العامّة ممّن يتحلّقون حول كنيسة روما الكاثوليكيّة وحول البابا الحاليّ، رغم أن بعضهم قد يكون ملحداً أو لاأدريّاً. فهم يفعلون هذا لأنّهم يرون في الكنيسة والبابا من يحمل ويحمي الحضارة المسيحيّة الغربيّة التي، ويا للمفارقة، تنطوي على حماية العلمانيّين تماماً كحماية أنفسهم. وتُعدّ أهمّ "المحافظين اللاهوتيّين" وأبرزهم الكاتبة والصحافيّة الإيطالية أوريانا فالاتشي، التي توفيت في أيلول (سبتمبر) الماضي بعدما ختمت حياتها بوصفها أشدّ السجاليّين راديكاليّة في مناهضة الإسلام. والحقّ أن فالاتشي لم تكن مناوئة للإسلاميّين فحسب، بل للإسلام نفسه أيضاً، إذ نسبت إلى الدين معاداة الليبراليّة والنساء وحكم القانون، رافضة تصديق وجود إسلام على الطريقة التركيّة حيث يمكن للعلمانيّة أن توجد ولحكم القانون أن ينشأ ويزدهر. وفي أواخر الشهر الماضي انضم إلى فالاتشي الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، جلاّد الشيشان المسلمين بأكثريّتهم، والذي أعلن أمام مؤتمر عقدته بلدان الاتّحاد الأوروبيّ في فنلندا أن التحدي الأكبر الذي يواجه الأوروبيّين هو "حماية المسيحيّة في أوروبا". وقبل أسابيع كان المونسنيور رينو فيسيشيلاّ، رئيس جامعة لاتيران التي ترتبط مباشرة بالفاتيكان والبابا، قد أعلن أن أوريانا فالاتشي قد أوصت بمكتبتها الضخمة لمكتبة جامعته الدينيّة. وهو ما شكّل إشارة واضحة الدلالة على هذا الاتجاه في أوساط أشخاص غير مؤمنين إلا أنهم، مع هذا، باتوا يتماهون مع الكنيسة والبابا. وقد اكتسبت نزعة المحافظة اللاهوتيّة مزيداً من التعزيز الشهر الماضي، عندما تحدّث البابا في فيرونا بلغة إيجابيّة عن أولئك الذين يتبعون القيم الكاثوليكيّة من دون أن يمارسوا طقوس الكنيسة. وأكثر صراحةً منه كان الكاردينال "رويني"، كبير الكرادلة الإيطاليين، حين قال إن الكنيسة يُسعدها أن تلتقي في "المسائل الأخلاقيّة" مع أولئك "الذين لا يملكون الإيمان المسيحيّ أو لا يمارسونه". وهذه نقلة مهمة لبابويّة بنديكت السادس عشر في ما خصّ النسبيّة والانفتاح على آخرين غير محسوبين تقليديّاً على الكنيسة وحظيرتها. وهي، فوق هذا، علامة على لقاء عريض حول حضارة تجد محددّاتها في اليهوديّة وفي التقليد الفلسفيّ المستقى من قدامى الإغريق، وقبل كلّ شيء في المسيحيّة كما تبلورت في ألفي عام، وكما تستمرّ حتّى اليوم. وقصارى القول إن النزعة المذكورة إنّما تقدّم نفسها كشأن حضاريّ يتيح التعدّد، بما فيه قبول الإلحاد، أكثر مما هي كشأن دينيّ بحت. وهي، بالمعنى ذاك، ترسم، من الزاوية هذه، تضادّها مع الإسلام بوصفه تعريفها الذاتيّ الأوّل. وقد أنهى "جون لويد" مقالته متوقّعاً الازدهار والتوسّع للمحافظة اللاهوتيّة فيما كان جون أبو زيد، القائد العسكريّ الأميركيّ في العراق، يحذّر من حرب عالميّة ثالثة في حال تنامي الراديكاليّة الإسلاميّة! إن ما يجري على هذه الجبهة يستدعي من المتابعة ما يستدعي من قلق جدّي، خصوصاً أن حصول ما توقّعه "جون لويد" يهدّدنا بمواجهة من موقعين متكاملين: من جهة، زجّ الدين (المسيحيّ) في المعركة، وهو، بطبيعة الحال، أقوى وأشدّ تأثيراً من أفكار إيديولوجيّة اقتصرت على حلقة من المثقّفين الذين عُرفوا بـ"المحافظين الجدد". ومن جهة أخرى، زجّ قيم الحداثة والمعاصرة في المعركة إيّاها بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من "حضارة مسيحيّة" لا تحول دينيّتها دون دفاعها عن التعدّد والاختلاف. ومن الجهتين هاتين يُرسم للإسلام وجه لا بوصفه خصم المسيحيّة فحسب، بل كذلك، وهذا هو الأهمّ في هذا المعرض، بوصفه نقيض الحداثة وعدوّها. يكفي أن نتذكّر أن أوريانا فالاتشي التي تُعدّ أبرز المعبِّرين عن الظاهرة الجديدة هذه كانت قد قالت، بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ما لم يقله مالك في الخمر! ومنعاً للتقليل من أهميّة ما يجري ومن خطورته، يجدر التذكير بالمحاضرة الشهيرة للبابا الحاليّ في بلده ألمانيا والتي أثارت ما أثارته من غضب وجموح فيما أشّرت، على نحو بالغ الجلاء، إلى سمة هذا الزمن المأزوم الذي قد تحمل لنا الأيّام مزيداً من علامات تأزّمه.