في الماضي كانت انفجارات المنطقة تتوالى. أما في المشهد الإقليمي الحالي فهي تتزامن منتجة حالة يشتبك فيها الاختلاط واليأس مع جنون القتل ومختلف صور العنف والتدمير الأخرى. تبدو تلك الحالة وكأنها تعود بنا إلى عصور الهمجية الأولى, ولكنها في الوقت نفسه تصنع مستقبل المنطقة بغض النظر عما إذا كان هذا المستقبل قفزة للأمام أم عودة للخلف أم شيئا آخر مختلفا, وليس له حتى الآن اسم أو صفة. ماذا يجمع بين مختلف هذه الانفجارات؟ هل فيها نسق واحد ما يمكن فهمه وصياغته كقانون عام للصراعات في المنطقة؟ إذا أخذنا بالشعارات الأميركية والليبرالية، تظهر قضية الديموقراطية في خلفية بعض الانفجارات العربية. فما يسمى بتيار الأكثرية (وهي أكثرية برلمانية وليست بالضرورة أكثرية من المواطنين) تتشدق بالديموقراطية وبالسيادة اللبنانية في مواجهة سوريا وحلفائها اللبنانيين الذين يوصفون؛ إما بالطائفية أو بالنزعات الاستبدادية. وعلى العكس فإن حركات المعارضة المسلحة؛ سواء في جنوب السودان أو في دارفور، تنسب مسؤولية الانفجارات إلى النظام الاستبدادي في الخرطوم. أما في العراق فإن الحكومة الحالية لا تمل ولا تكل من الحديث عن المشروع الديموقراطي! هناك بالفعل قدر من الصعود للنضال الديموقراطي في عدد من الدول العربية. وتزدهر الفكرة الديموقراطية كمرجعية قوية لنقد النظم العربية الراهنة. ولكن لا يوجد أي أساس للاعتقاد بأن للديموقراطية أية علاقة بالانفجارات الحالية الكبيرة. فالانفجارات المتوالية في السودان والعراق ولبنان... تعزى للصراعات العرقية والطائفية وليست للنضال الديموقراطي. ويمثل انفجار الصراعات العرقية والقومية في العالم العربي والإسلامي، تعبيراً ساخناً عن قضايا العدالة في توزيع السلطة والثروة والرموز الثقافية؛ سواء التقت أو لم تلتق بقضية الديموقراطية. ورغم أصالة البعد العرقي والمذهبي، فهو لم يكن القانون الأساسي المولد للانفجارات الصراعية الكبيرة في المنطقة ككل. ومن ثم يصعب النظر إليه باعتباره القانون الحاكم لسياسات المنطقة منذ الاستقلال. والواقع أن أول ما يتبادر للذهن هو نمو حركة الإسلام السياسي ومحاولتها وراثة الدولة الوطنية وإحلال الدولة الدينية محلها، وهو أمر يمثل القانون العام لسياسات المنطقة خلال ربع القرن الماضي. ولا يزال هذا القانون يعمل بصورة تراكمية من المحيط الأطلسي حيث تقع الشواطىء والمدن الساحلية المغربية الرائعة، ووصولاً إلى جبال شمال آسيا الخضراء والتي لا زالت قريبة من حالة الطبيعة إذا ما وضعنا في الاعتبار أيضاً ما جرى للطبيعة من تخريب خلال القرن العشرين. ففي المغرب تنمو الحركة الإسلامية بقوة منذرة بتغيير اللوحة السياسية التقليدية هناك مع الانتخابات البرلمانية في العام المقبل. وقد هبطت موجة جنون القتل في الجزائر ولكن "الحالة الإسلامية" التي أنتجتها لا تزال تسبب احتقاناً شديداً، مكتوماً وغير مكتوم. وفي تونس وليبيا ومصر، تزدهر الرموز الدينية كرد فعل ضد التدابير العنيفة الموجهة ضد تيار الإسلام السياسي من جانب الدولة. فإذا انتقلنا إلى الشرق، سوف نجد الحركة الإسلامية المتشددة قوية للغاية ولا زالت تبني نفوذها على اتساع قاعدة المجتمع. وتحقق تلك الحركة انتصارات سياسية، سواء في الانتخابات العامة أو خارجها، خاصة في فلسطين والأردن واليمن والعراق والكويت والبحرين والمملكة العربية السعودية... وحتى في أفغانستان بدأت حركة "طالبان" فى استرداد جانب كبير من قوتها وحققت هذا العام انتصارات تكتيكية مهمة تسبب قلقاً شديداً لقوات حلف شمال الأطلسي العاملة هناك. ولا يختلف الموقف كثيراً في البلاد الإسلامية غير العربية الأخرى، خاصة إيران وباكستان والهند وطاجيكستان. لكن هذا القانون العام لا ينتظم ولا يفسر الانفجارات العظمى التي خرجت للعلن مؤخراً وتلك التي تنتظر الخروج ربما في غضون أيام أو أسابيع وتحديداً حالة لبنان. ففي الوقت الحالي تعد الصراعات المذهبية فيما بين تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي أكثر أهمية بكثير من صراع هذه التيارات جميعاً من ناحية وخصومها المتعلقين بفكرة الدولة الوطنية والمدنية من ناحية أخرى. وبغض النظر عمن تسبب فيه أو من يشعله ويغذيه بالوقود, فالصراع بين السنة والشيعة صار ملمحاً عاماً في المشرق العربي، وتحديداً في العراق ولبنان والبحرين. لكن المذهبية لا تفسر بعض الانفجارات الكبرى في المنطقة، مثل حالة دارفور, لأن طرفي الصراع من المسلمين, ولا يمكن فرزهم على أسس مذهبية. وفي هذه الحالة بالتحديد نجد انقساما على أسس قومية بين العرب (الجنجويد الذين يقال إن وراءهم الدولة السودانية ذات التوجه الأصولى من ناحية الشكل، وقبائل الفور المسلمة وذات التوجه العرقي من ناحية أخرى). كما أن هذه الظاهرة لا تكاد تفسر سوى التطرف والكثافة والشدة التي تنمو بها مشروعات مذهبية بين الجماعات والمؤسسات الطائفية في بعض الدول العربية الآسيوية. فالصراعات المذهبية ليس لها محتوى سياسي واحد. إذ بينما هيمنت التنظيمات السياسية الشيعية على العراق في ظل الإحتلال الأميركي وبفضله، فالتنظيمات الشيعية في لبنان تتحالف مع سوريا وإيران ضد النفوذ الأميركي. ويتراوح موقف التنظيمات الشيعية في بقية البلاد العربية الأخرى بين هذا الموقف وذاك, مع تطلعها جميعاً لإيران كسند سياسي إقليمي مهم. ولا شك أن التدخل والضغط الأميركيين ملحوظان في غالبية الانفجارات التي تتوالى في المنطقة، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر. ويمكن للكثيرين القول بأن الصراع بين المشروع الأميركي للهيمنة والمشروعات الأخرى المناقضة، تمثل القانون العام لسياسات المنطقة. ويبدو هذا التحليل منطقياً إذا أخذنا في الاعتبار ردود فعل بعض القوى الإقليمية المهمة. فلا شك أن الضغط الأميركي الثقيل ضد سوريا وإيران دفعهما للدفاع عن النفس في/ ومن خلال لبنان والعراق، وذلك ببناء تحالفات مختلفة وأحياناً متناقضة, وهي التحالفات التي توفرها البيئة المحلية من ناحية والمبادرات الأميركية من ناحية أخرى. وفي حالة السودان يمثل الضغط الأميركي عاملاً بالغ الأهمية في الاحتقان المتزايد هناك حالياً. ولا شك أن العامل الأميركي وراء الانفجارات في شمال آسيا وخاصة في أفغانستان وباكستان، بل وبصورة غير مباشرة في طاجيكستان. ولكن السياسة الأميركية لا تُنشئ التناقضات المذهبية والقومية والسياسية التي تتفجر في المنطقة، وإنما تستثمرها لصالحها ولصالح إسرائيل بقدر ما تستطيع. وأدى فشلها في بعض الحالات إلى عزوف طويل عن التدخل الفعال في بعض الحالات الصراعية؛ مثل الصومال التي تطورت أحداثها بعيداً جداً عن المصالح الأميركية. وتسهل ملاحظة الفشل الأميركي المريع في العراق والذي أدى إلى خسارة الإدارة الجمهورية لانتخابات التجديد النصفي للكونجرس مؤخراً. وفي بعض الحالات الأخرى, لم يكن للولايات المتحدة دور رسمي مؤثر خلال فترة الصراع لأن أطرافه ينتمون لأيديولوجيات منفرة للولايات المتحدة. ففي السودان دار الصراع لفترة طويلة بين الحكم الإسلامي من ناحية و"الجيش الشعبي لتحرير السودان" الذي تنتمى قيادته للأيديولوجيا الماركسية. وكان ذلك هو الحال أيضاً في أثيوبيا وأريتريا. ورغم هذه التحفظات يمكن اعتبار التدخلات الأميركية، وخاصة في ظل إدارة جورج بوش الابن، قانوناً عاماً في المنطقة يفسر شدة الانفجارات وتزامنها، إن لم يفسر أيضاً نشوبها أصلاً كما هو الحال في العراق. ولا يمكن لأي صاحب عقل أو ضمير أن يعفي الولايات المتحدة من مسؤولية الوضع المأساوي للمنطقة. ولكن هذا القانون لن يكون كاملاً إلا إذا فهمناه في علاقة جدلية مع قانون آخر ينشأ في أحشاء المجتمعات العربية ذاتها. ويعكس تعدد الانفجارات في الواقع فشل الدولة في استيعاب سكانها على أساس المساواة ومبدأ المواطنة. ويمثل هذا الواقع القانون العام المكمل والمكثف للتدخلات الأميركية والدولية التي فتكت باستقرار الأقليم وأهدرت أية إمكانية لتطوره الصحي. وبالمقابل فإن الفشل في تجنب هذه الانفجارات والمبادرة بالحل السلمي للصراعات المتأججة في كثير من الدول العربية والإسلامية، يجب أن يعزى إلى الضعف الشديد للنظام الإقليمي وضعف القلب الإقليمي المحرك لهذا النظام, وتشتت التحالف الذي كان يحافظ على الحد الأدنى من السلام الإقليمي. فطالما ضعف القلب أو المركز تتداعى عوامل التشتت في الأجناب، بما يؤدي بنهاية المطاف إلى ضرب وإهدار مصالح أساسية بالنسبة لدول القلب. وإن لم يتم إحياء القلب وتنشطيه سوف تستمر هذه الانفجارات الإقليمية بصورة متتابعة بل ومتزامنة وعلى نحو يضاعف تمزق العالم العربي ويطلق فيه كل قوى التطرف والعنف. وفي الوقت الحالي, يكاد يستحيل انقاذ لبنان من احتمال الحرب الأهلية، بدون استعادة التحالف الثلاثي المصري السعودي السوري وتدخله بسرعة وفعالية وعبر رؤية عقلانية وواقعية في الوقت نفسه. ويصدق الأمر نفسه بالنسبة للعراق والسودان. ويبدو أن هذه الاستعادة لن تكون سهلة بل قد تتطلب مفاوضة شاقة ومعقدة وخلاقة. Classifications Comments and Actions Present in Collection Proofed. Originally received in RAPIDBrowser on Tue 28 Nov 2006 16:10 GST This item was derived from: د. محمد السيد سعيد/الأربعاء/29/11/2006