صار شخص الرئيس عرفات هو بؤرة اهتمام السياسة الدولية والإقليمية بعد أن قررت لجنة من الوزراء الإسرائيليين إزالته على حد التعبير الإسرائيلي والذي قد يعني اغتياله أو نفيه خارج الأرض المحتلة. ففشل مجلس الأمن ونجحت الجمعية العامة في إصدار قرار·
وبسبب الاهتمام الإعلامي بمصير الرئيس عرفات غاب عن الكثيرين فهم جوهر التكتيك الذي يقوم به الرئيس الفلسطيني. فعرفات كان يدرك ويتوقع رد فعل عنيفا من جانب إسرائيل والولايات المتحدة. ولكن ذلك لم يمنعه من القيام بإقالة أبو مازن وتشكل هذه الإقالة جوهر التكتيك العرفاتي في المرحلة الحالية.
والواقع أن هناك خلافا واسعا في فهم هذا القرار. فثمة ما يدل على أن عرفات كان ينام على الشوك منذ تم تعيين أبو مازن وانتقال جانب من سلطات عرفات إليه. فالرجل لم يقبل أبدا في حياته أن يمنح أي شخص آخر أدنى تفويض حتى بسلطة شراء مقشة كما يقال. وقد وحد بين شخصه والزعامة والسلطة وفلسطين الى الدرجة التي تمنعه أن يقبل أي نوع من التمييز بين هذه المعاني. ولم يكن من الممكن أن يقبل طويلا أن تنتقل الأضواء ناهيك عن السلطة الى أبو مازن · ولذلك خاض معركة كبيرة حول كل كبيرة وصغيرة منذ اليوم الأول لتشكيل حكومة أبو مازن ومن يقرأ خطاب استقالة الأخير والموجه إلى البرلمان الفلسطيني يشعر بتعاطف كبير مع الرجل الذي لم يجعله عرفات يهنأ بيوم واحد في القيادة دون أن ينغص عليه ويحاول نسف سلطاته ويهينه ويذكره بصاحب الزعامة الحقيقية في المؤسسات وفي الشارع الفلسطيني. ولم يتورع عرفات عن تأطير صورة لـ أبو مازن ومن اختارهم للمناصب المهمة بحكومته باعتبارهم خونة وعملاء لأميركا بل ولإسرائيل أيضا.
ولذلك صار هذا هـــــو التفسير الرائــــــج في الصحافة العربية والدولـــية لتحـــــــرك أبو عمار وهو ما جعله يخسر شيئا من التعاطف الشعبي في العالم العربي والعالم ككل.
غير أن هناك تفسيراً آخر تماما وهو أن قرار الإقالة موجه أساسا إلى سرائيل والولايات المتحدة. فعرفات أكد لهم بحركة بارعة وسهلة من هو القوة الحقيقية في الأرض المحتلة ومن هو صاحب القرار هناك.
ولكن هذا التفسير يخطىء فهم الجانب الأكبر من تكتيك أبو عمار . ويمكننا فهم القرار من منظور آخر تماما. لقد قرأ عرفات الموقف الأميركي منذ بداية تطبيق خطة الطريق باعتباره محاولة متعجلة لترتيب أوضاع الأرض المحتلة مع استمرار تمكين شارون من التلاعب بالوضع الفلسطيني بدون تنازلات كبيرة. فالقضية الفلسطينية -وفقا للقراءة العرفاتية- لا زالت بعيدة عن أن تحتل مكانتها اللائقة أو أن تعامل بالجدية المطلوبة من جانب تلك الإدارة الأميركية بالمقارنة بالملف العراقي الذي يشغل هذه الإدارة كلية تقريبا. أما بالنسبة إلى إسرائيل -حكومة شارون- فلم تترك الكثير لعرفات لكي يفعله. إذ قامت تلك الحكومة بتفسير موقفها من خريطة الطريق بطريقة لا تقبل الغموض. إذ صرحت بأن تلك الخطة تعتبر انتصارا إسرائيليا في معركة الانتفاضة ولذلك لم تقدم سوى تنازلات شكلية لـ أبو مازن .
وقدر عرفات أنه لو استمر الأمر الواقع بالنسبة لتطبيق خريطة الطريق على هذا النحو فإن الفلسطينيين لن يحصلوا على شيء سوى الهزيمة التامة. فسريعا ما سيبدأ سباق الرئاسة الأميركي حيث تقل قدرة الرئيس على القيام بأي تحرك له معنى إلا لصالح إسرائيل. وفي الوقت نفسه لو سارت الأمور بدون أزمة كبرى يستطيع الرئيس الأميركي أن يسجل لنفسه تحقيق إنجاز ما فيما كان موضوعا للفشل طوال الوقت: أي الادعاء بأن خطته المطروحة في خطاب 24 يونيو عام 2002 قد نجحت لمجرد وجود أبو مازن المعروف بنقده للانتفاضة على رأس السلطة الفلسطينية.
ولربما كان من الممكن لعرفات أن يقبل بأبو مازن لأنه هو الذي منحه المنصب وتابع بنفسه -وفقا لرواية أبو مازن - كل صغيرة وكبيرة من عملية تطبيق خريطة الطريق لو أن الأميركيين قد قاموا بجهد حقيقي ومتوازن لتطبيق الخريطة ودفع القضية الفلسطينية قدما. وهو ما لم يحدث. ومن ناحية أخرى لمن يكن لدى عرفات وقت طويل.
ومن هذا المنظور قام عرفات بإقالة حكومة أبو مازن لتحريك أزمة كبيرة تنبه أميركا وإسرائيل لحقيقة أن طريقة تطبيق خطة الطريق ليست مقبولة. فإن لم يمنح الفلسطينيين شيئا ملموسا فعرفات يستطيع أن يحرم بوش من ميزة الحديث عن إنجاز أمام الشعب الأميركي.
كان عرفات يدرك أن إسرائيل وربما أميركا أيضا سوف تنفجر غضبا. ولذلك كان يتوقع التهديد بنفيه أو قتله. وهو فيما يبدو كان مستعدا لهذا التهديد وهو ما يعني أنه كان يريده. فبدون هذا التهديد ستكون إقالة أبو مازن أقل من أن تحدث أثرها المطلوب فى إثارة أزمة. وبالتالي تكون الحكومة الإسرائيلية غير المجربة قد وقعت في الفخ الذي أعده لها أبو عمار. فالتهديد بنفي عرفات أو قتلة أثار الشعب الفلسطيني وزاد شعبية الرجل وأعاده الى بؤرة الضوء.
ويضع أبو عمار أميركا بين خيارين: إما أن تتعامل معه شخصيا من جديد وتحرك القضية بصورة جادة أو أن يذهب بوش الى الانتخابات بدون أي إنجاز على