في دراسة خطيرة أثارت الكثير من الجدل، طالب مجموعة من خبراء الإيدز الدوليين ومن المتخصصين في الأخلاقيات الطبية، بضرورة لجوء حكومة جنوب أفريقيا إلى الحجز والعزل القسري لجميع المرضى المصابين بنوع خاص من السل الرئوي، يقاوم العديد من العقاقير والأدوية المستخدمة لعلاج هذا المرض (Extensively drug-resistant TB)، ويعرف اختصاراً بـ (XDR-TB). ويهدف العلماء من هذه المطالبة، إلى وقف انتشار هذا النوع الخطير من المرض إلى بقية دول القارة، والتي يرزح معظمها تحت وطأة وباء الإيدز. ولإدراك مدى خطورة هذا النوع من السل الرئوي، يكفي أن نعلم أن 98% ممن أصيبوا بهذا المرض، لقوا حتفهم في أقل من أسبوعين. وفي ظل تزايد مكانة جنوب أفريقيا كمزار سياحي ومركز تجاري دولي، يخشى العلماء القائمون على الدراسة، أن ينتشر هذا النوع من السل الرئوي خارج نطاق القارة، ليتسبب في أعداد هائلة من الوفيات أيضاً بين المصابين بفيروس الإيدز في مناطق العالم الأخرى. وخلال الأيام القليلة الماضية، نجحت المطالبة بحجز وعزل المرضى المصابين بهذا النوع من السل الرئوي، في فتح باب الجدل والنقاش على مصراعيه، حول نقطة التوازن بين سلطات الجهات الصحية والمصلحة العامة من جهة، وبين حرية الفرد وحقوقه كإنسان من جهة أخرى. حيث تزايدت المخاوف من احتمال توسيع نطاق مثل هذه المطالبات، لتشمل أمراضاً معدية أخرى، ولتصبح معها الإصابة بمرض معدٍ، جريمة تستحق الحبس والاعتقال. ولإدراك جميع جوانب هذه القضية، لابد وأن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن تاريخ عزل المرضى كإجراء وقائي، وأن نستعرض احتمالات ومخاطر انتقال الأمراض المعدية بين الدول والقارات في العصر الحديث. وخصوصاً الأمراض التنفسية المعدية، كالسل الرئوي والسارس والإنفلونزا. فبداية، نص القانون التوراتي القديم على ضرورة عزل مرضى الجذام عن بقية المجتمع، وهي السياسة التي استمرت حتى العصر الحديث، حيث استمر عزل المصابين بالجذام عن مجتمعاتهم رغماً عنهم، مع قصر إقامتهم على ما يعرف بـ"مستعمرات الجذام". وفي منتصف القرن الرابع عشر، صدر مرسوم في مدينة "ديبروفنيك" الكرواتية الواقعة على سواحل البحر الإدرياتيكي، يقضي بضرورة بقاء السفن وحمولتها من الناس والبضائع في منطقة معزولة لمدة أربعين يوماً، قبل السماح لها بالرسو في الميناء. وهدفت السلطات المحلية من هذا الإجراء الجديد على الجنس البشري حينها، إلى خفض احتمالات انتقال الأمراض المعدية من خلال البضائع والأشخاص والحيوانات الموجودة على متن السفن التجارية. ومؤخراً عادت المطالبة بتوسيع نطاق استخدام الحجر الصحي وتشديد إجراءاته، مع انتشار مرضي "سارس" وأنفلونزا الطيور، وتزايد المخاوف من تحول هذين المرضين إلى وباءين عالميين يقتلان عشرات الملايين. أما بالنسبة للسل، فهو مرض قديم قدم التاريخ نفسه، حيث أظهرت الدراسات التي أجريت على بقايا عظام إنسان الكهف، أن المجتمعات البشرية قبل ستة آلاف سنة كانت ترزح تحت وطأة مرض السل، وحتى فراعنة مصر القديمة ظهرت آثار السل في العمود الفقري لبعض مومياواتهم. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كان السل لا زال يشكل أكبر مشكلة صحية عامة تواجه المجتمعات البشرية في ذلك الوقت. ففي بريطانيا مثلاً في عام 1815، كان السل وحده مسؤولاً عن ربع الوفيات بجميع أسبابها بين السكان. وتأخذ مشكلة انتقال السل الرئوي المقاوم للعقاقير من دولة إلى أخرى بعداً خاصاً، بالنظر إلى أن هذا المرض يصيب حالياً بالفعل ثلث أفراد الجنس البشري، أو ما يزيد على ملياريْ شخص حالياً. وبمرور كل عام يصاب قرابة التسعة ملايين شخص بالسل لأول مرة، ويلقى 1.7 مليون حتفهم سنوياً من جراء هذا المرض. وإذا ما دققنا النظر فقط في الحالات المصابة بالنوع المقاوم للعقاقير، فسنجد أن انتشارها أكبر من أكثر التوقعات تشاؤماً. ففي ديسمبر الماضي، أجرت منظمة الصحة العالمية دراسة مسحية في 79 دولة، أظهرت أن هذا المرض ينتشر في جميع هذه الدول، دون استثناء. وتعاني دول الاتحاد السوفييتي السابق، ومناطق متفرقة من الصين، من معدلات انتشار هي الأعلى بين مناطق العالم المختلفة، ولا يختلف الوضع كثيراً في أفريقيا عن ذلك أيضاً. وتنشأ حالات السل المقاوم للعقاقير، نتيجة حدوث طفرة في التركيب الوراثي للميكروب، بسبب تقاعس المرضى عن إكمال فترة العلاج بالكامل، أو نتيجة للخطأ في كمية ونوعية الأدوية الموصوفة لهم. ومما يفاقم من هذه المشكلة، اتباع معظم الدول، كما في جنوب أفريقيا، سياسة علاج تعتمد على العيادات الخارجية. وهو بخلاف أنه يتيح للمريض فرصة للتقاعس عن إكمال علاجه، يجعل منه بؤرة مرضية متحركة، تنشر هذا النوع الخطير من الميكروب بين أفراد المجتمع الأصحاء. هذا الوضع هو الذي دفع العلماء في دراستهم للمطالبة بضرورة تغيير هذه السياسة، وحجز هؤلاء المرضى، لضمان إتمام علاجهم، ولمنعهم من نشر المرض بين الآخرين. ولكن بخلاف أن هذه السياسة قد تثير انتقادات بعض منظمات حقوق الإنسان، إلا أنها تتطلب أيضاً تخصيص مصادر مالية أكبر من قبل الجهات الحكومية. فالمعروف أن تكلفة علاج المريض داخل المستشفى، تبلغ أضعاف علاجه في العيادات الخارجية. هذه النقطة بالتحديد هي مربط الفرس في معركة الجنس البشري الأبدية مع ميكروب السل، وهي الضريبة التي ربما يجب علينا جميعاً أن نساهم فيها إذا ما كان لنا أن نوقف انتشار هذا الوباء المميت، بالإضافة إلى قدر من التغاضي عن حقوق بعض الأفراد، ولو مؤقتاً. د. أكمل عبد الحكيم