في عام 1985 كنت في زيارة إلى السويد، وفي إحدى جولاتي في مركز تجاري فخم بالعاصمة ستوكهولم، شاهدت عائلة من رجل وزوجته وطفليه يقومون بالتجول بين المحال التجارية· الرجل كانت تبدو عليه الوجاهة والوسامة، فقد كان في كامل أناقته إلى درجة أنني ظننت أنه خارج لتوه من تحت أيدي خبراء الماكياج والأزياء وأنه جاهز لتصوير فيلم سينمائي!
ولم تكن زوجته أقل منه أناقة ووسامة، ولكن الملاحظة الأخرى التي لاحظتها هي أن الرجل كان يحظى باحترام زائد من البعض، مما أثار فضولي لسؤال سويدي من أصل عربي كان يتمشى معي، عن سر هذا الاهتمام به·· فأجابني الرجل بعد أن نظر إليه قائلا: إنه وزير الخارجية! ·
كانت هذه الواقعة كفيلة بأن أقرأ المزيد عن هذه البلاد، وأن أسأل عن القوانين والأنظمة وطرق المعيشة فيها والتي تسمح لوزير بحجم وزير الخارجية المشي في الأسواق دون حراسة· بالطبع علمت بعد ذلك أن الدستورعندهم يمنع منعا باتا تخصيص مرافقين أمنيين ورجال الشرطة لحراسة أي مسؤول مهما كان حجمه!· وعندما قال لي هذا السويدي من أصل عربي تلك المعلومة قلت له مازحا: مسؤولوهم لا يتمتعون بأية حراسة، تماما كما هو الحال في البلاد العربية!؟ ·
الموقف الذي أتذكره تماما هو أنني في اليوم التالي قابلت مسؤولا برئاسة الحكومة السويدية، وكان من بين ما دار في النقاش تعليق عابر ذكرته بسرعة· فقد قلت للرجل: سوف تغيرون رأيكم، وربما قوانينكم لو حدث مكروه لأي من مسؤوليكم في يوم من الأيام· ··· فنظر إلي الرجل مبتسما: لا أظن·· فالقوانين التي تحفظ حقوق الفرد عندنا لا تتغير بسهولة، نحن نؤمن بأن القوانين هي التي تغيّر سلوك البشر، وليس العكس· ·
في فبراير من عام ،1986 كنت في قسم الأخبار الدولية في جريدة الاتحاد ، وبينما كنت أقلب رول الأخبار الواردة من وكالتي رويترز و الفرنسية ، إذا بخبر مستعجل جدا يفيد بمقتل رئيس وزراء السويد أولف بالمه بالرصاص· وظننت لأول وهلة أن المسكين قد قتل في عملية تفجير سيارة مفخخة أو بصاروخ أو قذيفة آر بي جيه ، ولكن التحقيقات سرعان ما كشفت عن أن الرجل قتل بينما كان يقف في الطابور مع بقية خلق الله من المواطنين والمقيمين في بلاده بانتظار أن يأتي دوره لشراء تذكرة لدخول فيلم سينمائي!
بالطبع لم يتم التعرف على القاتل حتى هذه اللحظة، فقد كان المكان الذي يقف فيه رئيس الوزراء في الطابور كبقية البشر مكشوفا للجميع، ومن السهل اصطياد أي شخص يقف في طابور عام خارج دار للسينما·
يوم الأربعاء العاشر من سبتمبر الحالي، وبينما كانت وزيرة خارجية السويد آنا ليند البالغة من العمر 46 عاما تتسوق في محل تجاري في قلب العاصمة ستوكهولم، تقدم إليها مجهول يحمل سكينا حاداً، وطعنها طعنة قاتلة أودت بحياتها·· وبالطبع لم تكن الوزيرة تحت أية حراسة طبقا للقانون والدستور·
السويديون اليوم في حالة حزن، ليس على الوزيرة الراحلة فقط، بل على تدني مستوى عقلية البعض من محترفي الإجرام الذين لا يفرقون بين الجمال والقبح، فيقتلون الجمال ويتركون القبح يعشش بين البشر· أما الخوف الأكبر لديهم فهو أن تفشل فكرة أن القانون هو الذي يحدد سلوك البشر··· أما البشر فإنهم لا يحددون سلوك القانون··· وهنا يكمن الفرق بين التحضر··· والتخلف·