بيلوسي: تجاذبات واشنطن والتماس متنفس في دمشق! لم يحدث منذ سنوات طويلة أن كانت دمشق عرضة لغضب أميركي كهذا الذي تواجهه من إدارة جورج بوش الحالية، كما لم يسبق أيضاً لعاصمة الأمويين خلال الأربعة أعوام الأخيرة، أن استقبلت مسؤولاً أميركياً بمستوى رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي التي تزورها غداً الثلاثاء، في خطوة تثير تعليقات كثيرة وتضع أكثر من علامة استفهام! فهل تشير الزيارة إلى تحول في السياسة الأميركية تجاه سوريا؟ وهل هي متصلة بالعلاقة مع دمشق ذاتها، أم تتعلق أساساً بالعراق الذي أصبح قضية القضايا في النقاشات الأميركية الحالية؟ وما موقعها من تجاذبات الحزبين الرئيسيين في واشنطن؟ وفقاً لتصريحات أدلى بها نواب يرافقون بيلوسي، فإنها ستبحث مع الرئيس السوري بشار الأسد موضوعات تشمل الوضع في لبنان وفي العراق ومسألة اللاجئين العراقيين في سوريا والدعم السوري لمنظمات فلسطينية... أي الملفات ذاتها التي شكلت عناوين بارزة للتصعيد الأميركي ضد دمشق، حيث دأبت واشنطن منذ صيف عام 2003 على اتهام السوريين بفتح حدودهم لتدفق المسلحين نحو العراق وبدعم المقاتلين السُّنة هناك... كما فتحت ملف الوجود السوري في لبنان، وعملت بقوة على تصفيته وعلى إنهاء الدعم الذي كانت تقدمه سوريا لـ"حزب الله"، قبل أن تأتي حادثة اغتيال الحريري عام 2005 لتكسر "ظهر البعير" وتحشر دمشق في أضيق الزوايا! فإثر ذلك سحبت الولايات المتحدة سفيرتها من دمشق، وفرضت قيوداً على الاتصال معها، ودعت العواصم العربية إلى عزلها! وفي ظل القيود المذكورة، أخفق البيت الأبيض في ثني بيلوسي عن خطوتها، ولم يبق أمام وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلا أن تحمل بيلوسي "رسالة قوية" إلى السوريين حول لبنان والعراق والتنظيمات الفلسطينية. لكن يعرف عن بيلوسي عنادها وكونها لا تستسلم بسهولة. فخلال حملة الانتخابات التشريعية الأميركية الأخيرة، سخر الرئيس بوش من "تلك المرأة التي تعتقد أنها يمكن أن تصبح رئيسة لمجلس النواب"، ثم توقف ضاحكاً ليقول: "إنها لن تصبح رئيسة للمجلس"! إلا أنه بعد أيام قليلة، في السابع من نوفمبر 2006، فاز "الديمقراطيون" بغالبية مقاعد مجلس النواب، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1994، فانتخِبت بيلوسي رئيسة للمجلس بأغلبية 223 من أصل 435 مقعداً. وفي اليوم التالي كان بوش يدعوها إلى الاجتماع على وجبة غداء في البيت الأبيض! لقد تأهلت بيلوسي لرئاسة مجلس النواب، لأنها تولت قيادة الأقلية الديمقراطية فيه منذ عام 2002، وخلال هذه السنوات أثبتت كفاءة عالية في القيادة واتخاذ القرار والتعبئة وتجميع الفرقاء من حولها. وفي محطات فارقة استطاعت أن تجمع أصوات "الديمقراطيين" وأصبحت "مركز جذب". وأخيراً تمكنت بذكائها وتصميمها، من قيادة "الحزب الديمقراطي" مجدداً نحو الفوز بعد 12 عاماً من سيطرة "الجمهوريين". ولدت نانسي في بالتيمور بولاية ميريلاند في الشرق الأميركي عام 1940، لأسرة كاثوليكية ثرية ومحافظة من أصول إيطالية، وكانت الفتاة الوحيدة بين أشقائها الستة. تلقت تعليمها في إحدى مدارس بالتيمور الكاثوليكية، ثم التحقت بكلية البنات في جامعة "ترينتي" الكاثوليكية بواشنطن. ورغم نشأتها المحافظة، فقد اهتمت نانسي بالسياسة وكانت "ديمقراطية" منذ الصغر، لاسيما أن والدها توماس داليساندرو كان عمدةً لبالتيمور ونائباً عن ميريلاند في الكونغرس الأميركي. خلال دراستها الجامعية التقت نانسي داليساندرو مع باول بيلوسي الذي كان طالباً في "جامعة جورج تاون"، فتزوجا وانتقلا إلى مسقط رأسه في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، حيث أنجبت منه ستة أطفال، وقد تفرغت تماماً لمهامها كأم، ولم تبدأ أي نشاط سياسي منتظم إلا بعد ما كبر أولادها. وحين وصلت سن السابعة والأربعين، دخلت مجلس النواب لأول مرة عام 1987 عن دائرة جنوب سان فرانسيسكو، حيث أعيد انتخابها منذ ذلك الحين ثماني مرات وبأغلبية كبيرة في كل مرة. تعتبر بيلوسي اليوم من أبرز الأصوات داخل التيار الليبرالي في الكونغرس، ما جعل بوش يعيرها بلقب "سيدة فرانسيسكو"، مدينتها التي اشتهرت بانتشار الدعارة وكثرة المثليين! لكن بوش كان في الوقت ذاته يرد على تصريحاتها القوية والصريحة بحقه، ومن ذلك قولها إنه "غير كفؤ، وخطير، وكاذب". وإلى ذلك فقد قادت حملة للتصويت ضد قرار يخول بوش صلاحية شن الحرب على العراق، على رغم أنها صوتت فيما بعد على قرار ميزانية الحرب، كما عارضت قانون خفض الضرائب، وأيدت حق الإجهاض، وعارضت السماح بتنظيم الصلوات داخل المدارس، ودافعت عن التبادل التجاري الحر مع الصين. وأظهرت بيلوسي شجاعة نادرة حين عارضت في نوفمبر 2001 قرار الرئيس بوش إنشاء محكمة عسكرية لـ"الإرهابيين الأجانب"، قائلة إنه "قرار غير قانوني وبلا جدوى"، ثم أعلنت بعد إقراره إن: "السماح بالاعتقال غير المحدد للمشبوهين في ظروف لا يمكنهم الاحتجاج عليها أمام القضاء، أمر مخالف لتاريخنا وقيمنا". كان ذلك قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي أظهرت عزوف الرأي العام الأميركي عن مسايرة بوش في حرب العراق، ومن ثم جاءت بـ"الديمقراطيين" كأغلبية إلى مجلس النواب، لتصبح بيلوسي أول امرأة تترأس المجلس في تاريخ الولايات المتحدة. وبحكم الدستور، فإن بيلوسي اليوم تحتل المرتبة الثالثة بعد الرئيس ونائبه، وبوسعها أن تفرض رقابة على الإدارة وعلى كثير من سياساتها، بل لها أن تقرر استدعاء بوش وكبار مساعديه إلى جلسات استماع وتحقيقات حول ملفات مثل قرار الحرب على العراق، واختفاء أموال هناك، وحول عقود الإعمار، إضافة إلى إدارة الأزمة أثناء إعصار كاترينا. ولازال النواب "الديمقراطيون"، بقيادة بيلوسي، يصرون على الربط بين إقرار الأموال الإضافية التي طالب بها بوش لقواته في العراق، وبين جدولة الانسحاب العسكري من هناك! وفيما يواصل بوش تمسكه بخيار المضي في خوض الحرب، فإن بيلوسي -فيما يبدو- تأخذ على محمل الجد توصيات "لجنة بيكر- هاملتون" حول ضرورة إجراء حوار مع إيران وسوريا... فالمأزق الأميركي في العراق بحاجة إلى متنفس إقليمي للتخفيف من حدة الانحباس فيه، أي المتنفس الذي تلتمسه بيلوسي في جولتها الحالية على عواصم شرق أوسطية، أكثرها تماساً مع ذلك المأزق هي دمشق ذاتها! محمد ولد المنى