تكمن المأساة في تصاعد المواجهة بين الرئيس بوش والكونجرس ذي الأغلبية "الديمقراطية" في أن لكل منهما شيئاً يحتاجه الآخر؛ ذلك أن بوش يتوفر على سلطة إحداث التغيير في الاتجاه الذي تسير فيه الحرب، ولكنه يفتقر إلى المصداقية وثقة الجمهور للحصول من جديد على الدعم لمخططه؛ في حين يفتقر "ديمقراطيو" الكونجرس، حتى بعد انتصارهم المدوي في مجلس "الشيوخ" يوم الثلاثاء الماضي، إلى القوة لفرض اتجاه جديد في العراق. ولكنهم يعرضون على بوش الإمكانية الوحيدة التي باتت في متناوله لإعادة تحقيق إجماع وطني بخصوص دور أميركا في الحرب. ولأنه لا أحد منهما يستطيع تحديد اتجاه دائم بمفرده، فإن الخيار لا يتعدى أحد أمرين: فإما الاستمرار في المواجهة والصدام، على غرار ما أظهره تصويت مجلس "الشيوخ" يوم الثلاثاء الماضي الذي وافق على تحديد سقف زمني للانسحاب، أو السعي إلى التوصل إلى اتفاق بشأن استراتيجية للعراق يمكن لتحالف واسع في الكونجرس أن يدعمها. وإذا كان "هاري ريد" زعيم الأغلبية "الديمقراطية" في مجلس "الشيوخ" قد دعا يوم الثلاثاء الماضي إلى هذه المفاوضات، فإن بوش يتبنى في هذا السجال المتصاعد مقاربة تنفي، في ما يبدو، هذا الوضع السياسي المتشنج. وتفيد استطلاعات الرأي التي أنجزتها مؤسسة "غالوب" أن شعبية الرئيس بوش لم تتعدَّ حاجز الأربعين في المئة معظم العام الماضي، وهو رقم قياسي لم يسجله أي رئيس أميركي منذ "جيمي كارتر" في 1980. وحسب نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "غالوب" مؤخراً، فقد تبين أن 28 في المئة من الأميركيين فقط، يتفقون مع بوش في طريقة إدارته للحرب؛ كما أفاد الاستطلاع نفسه بأن ثلاثة أخماس الأميركيين يرون أن على الكونجرس أن يوافق على وضع جدول زمني يفرض انسحاب كل القوات من العراق بحلول خريف 2008، وهو ما أكده استطلاع آخر للرأي أُعلن عن نتائجه يوم الاثنين الماضي. وسط هذا الخضم، يمكن القول إن البيت الأبيض سيكون واهماً إن هو اعتقد أنه يستطيع إعادة حشد الدعم الشعبي لمخططاته في العراق من دون موافقة الكونجرس ذي الأغلبية "الديمقراطية". إلا أن بوش، وفي فكرة ثانية تنم عن مخيلة خصبة، ولكنها تفتقر إلى الواقعية، بدا مقتنعاً بأنه مازال يستطيع فرض إرادته على الكونجرس عبر التصميم والعزيمة، رغم أن "الديمقراطيين" يسيطرون على غرفتي الكونجرس. وعلى نحو متزايد، لا يبدي البيت الأبيض التحدي فحسب في تعامله مع الكونجرس، وإنما الازدراء أيضاً؛ حيث رفض بوش أي دور للكونجرس بخصوص موضوع العراق غير الموافقة على مطالبته بمزيد من الدعم المالي؛ كما دخل في مواجهة معه عندما رفض استدعاء الكونجرس لبعض موظفي البيت الأبيض من أجل الإدلاء بشهاداتهم في جلسات علنية بخصوص إقالة النواب العامين الثمانية المثيرة للجدل، وعرضَ عليه بدلاً من ذلك تقديم هذه الشهادات في جلسات خاصة غير مسجلة، ومن دون أداء القسم. اللافت أن بوش عامل الكونجرس على كلتا الجبهتين بموقف الأستاذ المصمم على تهذيب أطفال غير منضبطين، وليس كرئيس جهاز تنفيذي ند للجهاز التشريعي؛ حيث أعلن البيت الأبيض الأسبوع الماضي أن الكونجرس لا يتمتع بسلطة الإشراف على الجهاز التنفيذي. وفي هذا السياق، قال "دان بارليت"، مستشار البيت الأبيض، إن بوش لن يتفاوض على الإدلاء بشهادات في قضية النواب العامين، خاصة إذا كان هذا التفاوض سيتم مع "أعضاء من الكونجرس مصممين على إجراء محاكمة سياسية". والحال أن الدستور الأميركي، مثلما يقول فقهاء القانون، لا يحصر سلطات الكونجرس "بخصوص تشريع القوانين الضرورية والمناسبة" في الأعضاء، الذين يرى الرئيس أن دوافعهم صافية وصادقة فقط. بيد أن تصويت مجلس "الشيوخ" الدرامي يوم الثلاثاء الماضي بخصوص موضوع العراق ربما بعث أخيراً برسالة إلى بوش مفادها أنه لا يمكنه أن يتعامل مع الكونجرس وفق شروطه فقط؛ ولكن "ديمقراطيي" الكونجرس لا يستطيعون بالمقابل إرغام بوش على قبول شروطهم أيضاً، رغم أن كلتا الغرفتين أضافت بنداً ينص على سحب القوات بحلول خريف 2008 إلى التشريع الذي يقضي بتمويل الحرب. فقد أشار بوش إلى أنه سيعارض أي انسحاب يُفرض بالقوة؛ كما أن عمليات التصويت، التي جرت الأسبوع الماضي تُظهر أن "ديمقراطيي" مجلس النواب ومجلس الشيوخ مازالوا بعيدين عن تأمين دعم ثلثي المجلسين الذي يحتاجونه لإبطال "فيتو" الرئيس. وبالتالي، يبدو أن الجانبين يوجدان على طريق الاصطدام؛ حيث يطالب بوش بالمال من أجل العراق، في حين يوافق "الديمقراطيون" على توفيره فقط إنْ هو تعهد بإنهاء المهمة الأميركية. بل ربما لا يكون ذلك سوى جولة من صراع طويل يُنتظر أن يتواصل مع النقاش حول تمويل وزارة الدفاع لعام 2008. والحال أن من شأن تواصل هذا الصراع أن يضر بـ"جمهوريي" الكونجرس في 2008 بسبب التصاق رئيسٍ وحرب غير شعبيين بهم. إلا أن الأمر لا يخلو من مخاطر بالنسبة لـ"الديمقراطيين" أيضاً؛ ذلك أنه بالرغم من أن الرأي العام الوطني انقلب ضد الحرب، فإن معدلات شعبية الكونجرس ما فتئت تتراجع بسبب احتدام الصراع مع بوش حول العراق وجبهات أخرى. والواقع أن اتفاقاً يربط زيادة عدد القوات بموافقة الإدارة على التعهد ببدء سحب القوات في حال لم تحرز استراتيجية بوش تقدماً ملموساً ومهماً في غضون فترة زمنية معقولة، إنما يخدم الأهداف السياسية للحزبين. ولعل الأهم من ذلك هو أنه إذا استطاع الزعماء الأميركيون حل خلافاتهم بخصوص تحديد اتجاه مشترك للحرب، فمن شأن ذلك أن يزيد الضغوط على الزعماء العراقيين من أجل فعل الشيء نفسِه. ـــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"