كانت لمؤتمر القمة العربي، الذي انعقد في المملكة العربية السعودية، أصداء متعددة راحت تتفاعل مع ما هو قائم في الواقع العربي، الذي يتجلى في حالة من الهُزال يقترب من الحُطام. وفي هذه الحال، تعترض الباحثَ صعوبة منهجية في تقويم ما حدث في المؤتمر وما صدر عنه، وموضع الصعوبة يكمن، خصوصاً، في السؤال التالي: من أين نبدأ في رؤية ذلك أو في ضبطه أو في تقويمه؟ ومع الإقرار بأن الإجابة على هذا السؤال تمثل الآن أمراً فائق الصعوبة، وذلك بسببٍ من غياب ما صدر في المناسبة المذكورة، خصوصاً منه ما لم يُعلن وما لم يُصرَّح به بوضوح، ومن ثم ما ظل سرياً أو شبه سري. ومن ثم، فإن باباً واسعاً يظل مُشرعاً أمام أنماط متعددة من التحليل السياسي والاجتهاد السياسي وتعدُّد الآراء النظرية ووجهات النظر الأيديولوجية. لكن ذلك كله لا يحول دون تبيُّن واحد من الخيارات، التي أفصحت عن نفسها فيما قُدم في المؤتمر، ويمكن أن تكون حاملة سمة أو مؤشر ذا أهمية منهجية لما قُدم أو لبعضه. وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نقرأ مثل هذا المؤشر فيما أطلقه الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز ضمن كلمته كرئيس للبلد المضيف. لقد أعلن أن مسؤولية الأوضاع القائمة في العالم العربي يتحملها حكام البلدان العربية بالدرجة الأولى. ومن ثم فقد وضع يده على نقطة حاسمة في تحديد استحقاقات أي خطوة فعلية وذات مصداقية سياسية وأخلاقية، في إطار مشروع إصلاحي وطني ديمقراطي ترنو إليه شعوب الأمة العربية. وإذا سرنا إلى أمام في تقويم ذلك المؤشر، فلعلنا نرى الأمرين التاليين: 1- الشفافية التي يتضمنها الإقرار بالمسؤولية المعنية. 2- تحديد نمط المسؤولية في واقع الحال المتمثل بـ"الحاكمية"، التي نقرؤها ها هنا من حيث هي "سياسية". لا نريد أن نحمّل ذلك ما قد لا يحمل أو ما قد يجادل فيه باحث أو سياسي، ولكننا -من طرف آخر- لا نرى أن ما أعلنه الملك عبدالله بعيد عن المحور أو الملف السياسي، الذي يمثل ركناً ركيناً في المشروع الإصلاحي المعْني. أما أن يكون الأمر كذلك، فإن نقطة حاكمة في هذا الأخير تكون قد أعلنت عن نفسها، الآن بلسان حاكم عربي. حقاً إن الاستحقاق السياسي كعنصر حاسم على هذا الصعيد وجد حتى الآن تنكّراً مثيراً من قِبل النظام العربي، باستثناء حالات فريدة وخجولة. ومع بعض التدقيق في المسألة، نلاحظ أن الكلام عن "إصلاح سياسي" في العالم العربي يأخذ عدة صيغ تبرز منها الثلاث التالية: 1- تجاهل استحقاق الإصلاح الوطني والتحديثي الديمقراطي عموماً وإجمالاً، بما في ذلك "السياسي". 2- تأكيدُ إعلامي رسمي دائم على الإصلاح وضرورته، لكن على أرض الواقع لا وجود لأثر ذلك، اللهم إلا في مجالٍ أو حقل ثانوي مثل الحقل المصرفي أولاً، ولا يطال أوساطَ الجمهور الواسع من الفئات الوسطى ومن الطبقة الدنيا ولواحقها ثانياً. أما الصيغة الثالثة من "الخطاب الإصلاحي العربي"، فتظهر بكيفية إشكالية ملتبسة تثير وتستفز معظم المجتمع السياسي وأطرافاً عديدة، من فئات وطبقات المجتمع العام. وبالعودة إلى الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فإننا نرى أن ما طرحه بصيغة المؤتمر بمسؤولية الحكام العرب في إخفاق الحلول الإصلاحية الوطنية، وفي التمكين للآخرين أن يخترقوا نسيج العالم العربي، يُفضي إلى أطروحة ثانية تحدد أهمية الإصلاح السياسي. أما هذه الأطروحة فتتحدد فيما يلي: إن ملف الإصلاح السياسي لا يمثل أمراً مهماً وربما حاسماً بذاته فحسب، وإنما حسميته تتجلى كذلك، في أنه -بالتعبير النظري السياسي- الملف الذي يفتح الملفات الأخرى أو الذي يهيئ ويؤسس لعملية الفتح هذه. كيف ذلك؟ إذا وضعنا في الاعتبار أن من مقتضيات الإصلاح السياسي وعناصره البنيوية إطلاق حرية المجتمع من خلال إدخال الحراك السياسي فيه، أي عبر إنتاج أو إعادة إنتاج المجتمع السياسي القائم على وجود أحزاب سياسية تمارس وجودها عبر صراع سياسي وباتجاه أهداف وطنية تنضج في سياق هذا الصراع، فإننا سنلاحظ أن نقطة البدء في الإصلاح المذكور تكمن هنا. وكي يتحقق ذلك، يغدو من قبيل تحصيل الحاصل أن تسقط العوائق، التي تقف في وجهه: إنهاءُ أو تجميد قوانين الطوارئ والأحكام العرفية بضمانات دستورية، تتخطى الوعود التي يطلقها حاكم أو آخر في لحظة أو أخرى، والانخراط في جهود مركزة لاستصدار قانون أحزاب عصري ديمقراطي وآخر للمطبوعات وثالث للانتخابات. إذاً -وهذا ما نرغب في التشديد عليه- لا خروج من الأزمة البنيوية، التي يغرق العالم العربي فيها داخلا ًوخارجاً، بعيداً عن استبدال النظام الأمني بالنظام السياسي، الذي يكون الجميع فيه أطرافاً معنية بما يجري فيه... إن مؤتمر العرب في المملكة العربية السعودية، ينبغي أن يتحول إلى رافعة جديدة في مواجهة التحديات الكبرى والصغرى وما بينهما.