شرعنا في المقال السابق في ما عبَّرنا عنه بـ"استئناف النظر" في إحدى القواعد الأصولية التي كثيراَ ما يحتج بها، في زماننا هذا، كثير من غير ذوي الاختصاص، أعني القاعدة التي نصها: "الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". وكما فعلنا، من قبل، في مناقشتنا للوضعية الإبيستيمولوجية لـ"أصل الإجماع" (وبعبارة الفقهاء: مستنده وحجِّيته)، فقد بدأنا بالنظر في تاريخ نشأة هذه القاعدة، انطلاقاً من النظر في المفاهيم التي تتكون منها. وهكذا تبيَّن لنا من خلال الرجوع إلى المؤلفات الأولى في "معاني القرآن" أن اللفظين، "العام" و"الخاص" (والعموم والخصوص)، غائبان فيها، وأن المرات القليلة جداً التي استعملا فيها لم يكن معناهما يتجاوز المعنى اللغوي المعروف. وأكثر من ذلك، تأكد لدينا أن هؤلاء المفسِّرين اللغويين الأوائل، قد أعرضوا تماماً عن المرويَّات في فهم "معاني القرآن"، إيماناً منهم بأن القرآن خاطب العرب بما تَفْهم، وأن الصحابة لم يكونوا في حاجة في فهمه إلى غير سليقتهم وفطرتهم اللغوية. يقول أبو عُبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى التميمي المولود عام 110 هـ، في مقدمة كتابه "مجاز القرآن": إن القرآن "إنما أُنزل بلسان عربي مبين... فلم يحتج السلف، ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عربَ الألسُن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه وعما فيه، مما في كلام العرب مثلُه، من الوجوه والتلخيص. وفي القرآن مثلُ ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني". ويدخل كل ذلك في مفهوم "مجاز القرآن" الذي قصد به أبو عبيدة جملة الطرق والكيفيات اللغوية التي يستعملها القرآن في "الجواز" -أو العبور- من الألفاظ إلى المعاني التي يقصدها، وهو ما سيسميه الشافعي بـ"كيف البيان"، وسيطلق عليه المتأخرون "وجوه البيان". من أنواع "مجاز القرآن" (أو وجوه البيان) التي اهتم أبو عبيدة بشرحها ما عبر عنه بالمجاز من "الجميع" إلى "الواحد" أو العكس. يقول: - "ومن مجاز (القرآن) ما جاء لفظه لفظ الواحد الذي له جماع منه، ووقع معنى هذا الواحد على الجميع (=باصطلاح المنطق: خاص أريد به عام): قال (تعالى) "يُخْرِجُكُم طِفْلاً" (غافر67) في موضع: "أطفالاً". وقال: "إنما المُؤْمِنُون إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم" (الحجرات 10)، فهذا وقع معناه على قوله: "وإِن طَائفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقتَتَلُوا" (الحجرات9)، وقال: "وَالمَلَك عَلَى أَرْجَاَئها" "(الحاقة 17)، في موضع: "والملائكة". - ومن مجاز ما جاء من لفظ خبر الجميع على لفظ الواحد (=خاص أريد به عام)، قال (تعالى): "وَالمَلاَئكَةُ بَعدَ ذِلكَ ظَهِيرٌ" (التحريم 4)، في موضع: ظُهَراءُ. - ومن مجاز ما جاء لفظه الجميع الذي له واحد منه، ووقع معنى هذا الجميع على الواحد، (عام أريد به خاص). قال: "الذينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إن النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكمُ" (آل عمران 173)، والناس جميع، وكان الذي قال رجلاً واحداً... - ومن مجاز ما جاء لفظه الجميع الذي له واحد منه ووقع معنى هذا الجميع على الاثنين (عام أريد به خاص)، قال: "فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ" (أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو إناثاً: النساء 11)، فالإخوة جميع ووقع معناه على أخوين. وقال: "إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بينَ أَخَوَيْكمُ" (في موضع إخوتكم: الحجرات 10)، وقال: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" (المائدة 38)، في موضع يَدَيْهِما. - ومن مجاز ما جاء لا جِمَاعَ له من لفظه فلفظُ الواحد منه ولفظ الجميع سواء. قال: "حَتَّى إذَا كُنْتُم فِي الْفُلْكِ" (يونس 22)، الفلك جميع وواحد" (اسم جنس، باصطلاح المنطق)... تلك أمثلة مما ورد في القرآن على صيغة "العام" و"الخاص"، ذكرها أبو عبيدة من دون خلفية منطقية، أو قاعدة أصولية، وإنما باستقراء على السليقة، متقيداً بما تفهمه العرب من لسانها كما كان حالها زمن النبوة.. فأطلق لفظ "الجميع" ولفظ "الواحد" على ما أطلق عليه الشافعي، مؤسس علم الأصول، اصطلاحي "العام"، و"الخاص"، وهما من الألفاظ المستحدثة في اللغة. نعم، لهما أصل في العربية من "عم" و"خص"، غير أن هذا الأصل لا يحمل معنى العموم والخصوص كما هو في اصطلاح الأصوليين والمنطقيين. نقرأ في "مقاييس اللغة" لابن فارس عن مادة "عم" ما يلي: "العين والميم أصلٌ صحيح واحد يدلُّ على الطُّول والكَثرة والعُلُوّ. قال الخليل: العميم: الطَّويل من النبات... ويقال عُمّمَ الرجُل: سُوّد... وقولهم: عَمَّنا هذا الأمر يَعُمّنا عموماً، إذا أصاب القَوم أجمعين، قال: والعامَّة ضدّ الخاصّة". هذا من جهة، ومن جهة أخرى نقرأ عن مادة "خص" ما يلي: "الخاء والصاد أصلٌ مطّرد منقاس، وهو يدلُّ على الفُرْجة والثلمة... وَالخَصَاصة: الإملاق... ومن (هذا) الباب خَصَصْت فلاناً بشيءٍ خَصُوصِيَّةً، بفتح الخاء، وهو القياس، لأنّه إذا أُفرِد واحدٌ فقد أوقَع فُرْجَةً بينه وبين غيره، والعموم بخلاف ذلك". واضح من هذا الذي ذكره ابن فارس عن معاني "عم" و"خص" وما اشتق منهما، أن العرب، زمن النبوة والخلافة الراشدة، وفي مقدمتهم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين، لو سمعوا عبارة "الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، لكان من المحتمل جداً أن يكون رد فعل بعضهم شبيهاً برد فعل النحوي الشهير أبي سعيد السيرافي في مناظرته مع أبي بشر متى المنطقي. وكان موضوع المناظرة المفاضلة بين النحو والمنطق. كان متى المنطقي يستعمل في دفاعه عن المنطق مفاهيم منطقية، بألفاظ عربية، فشعر السيرافي وكأن خصمه يتكلم لغة بالعربية داخل لغة العرب، وكأنه يقحم لغة في أخرى كما هو شأننا اليوم، فاحتج قائلاً لمتَّى: إن كلامك غير مبين ولا مفهوم، وأضاف: "إنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها". ذلك ما قاله رجل النحو لرجل المنطق، عندما كان الناس قد تعودوا على لغة النحويين واصطلاحاتهم (القرن الرابع الهجري). أما قبل ذاك، عندما كان النحو في طور النشأة، فقد حدث رد فعل مماثل، ولكن ضد لغة أبي سعيد واصطلاحه. من ذلك ما يروى من أن أعرابياً مر بجماعة من النحاة، يتناقشون في البصرة في قضايا نحوية وباصطلاح النحاة، فوقف يستمع! ولما لم يفهم شيئاً مما كانوا يقولون، خاطبهم قائلاً: "إنكم تتكلمون في كلامنا بكلام ليس من كلامنا". هل نقول عن القاعدة الأصولية "الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب": إنها "كلام في القرآن العربي المبين بكلام ليس من كلام العرب" الذين نزل فيهم؟ المسألة ليست بمثل هذه البساطة. ذلك أنه لو قلنا ذلك لأغلقنا الباب في وجه الاجتهاد ولحصرنا "فهم القرآن" في نطاق ضيق مقيد بفترة زمنية وبظرف محدود، مكاني واجتماعي وثقافي، ولما صح منا القول، بالتالي، إن "القرآن صالح لكل زمان ومكان". إن جوهر المسألة ليس محصوراً في دائرة الألفاظ والمصطلحات و"قواعد النهج"، إن القضية أكبر من ذلك كثيراً، إنها قضية الانتقال بعملية "فهم القرآن" من مستوى "معهود العرب" اللساني والفكري والحضاري، زمن النبوة، إلى مستوى آخر حصل فيه انتقال إلى نوع آخر من الخطاب، غير معهود لدى العرب، هو الخطاب "العالم". والخطاب "العالم" قوامه جهاز مفاهيمي به يتم الانتقال بالمعرفة من "الملاحظة الساذجة" للظواهر -الظواهر الطبيعة مثلاً- إلى مستوى الملاحظة المجهزة بمفاهيم وآليات وأدوات وتجارب (ذهنية أو مخبرية)، والتي وحدها توصف بالمعرفة العلمية. وهكذا فـ"علم أصول الفقه" ما كان ليقوم كعلم لولا تعامل الباحثين فيه بمفاهيم تتحدث عن معانٍ مجردة من قبيل العام والخاص، تعلو –مبدئياً على الأقل- على ما يمكن التعبير عنه بـ"الجانب الحسي" في اللغة كما يتمثل في لفظي: "الجميع" و"الواحد". إن هذا النوع من النقلة النوعية على صعيد المفاهيم وآليات التفكير هو ما يعبَّر عنه بـ"القطيعة الإبيستيمولوجية". هي قطيعة لأنه لا يمكن أن تتقدم بعدها معرفتنا العلمية بالرجوع إلى لفظي "الجميع" و"الواحد"، والتخلي عن مفهوم العام والخاص. وما جرى لـ"الجميع" و"الواحد" لابد أن يجري لهذين المفهومين وما تألف منهما وإلا جمدت المعرفة في مكانها.