لو حكّمت صناديق الانتخابات في أكثر من قطر عربي، لحكمت الغوغاء والأصولية الدينية التي تعيش أيام "سعيد جقمق" من المماليك البرجية. ولفضل الآباء الأميركيون أن يسموا بلدهم بالجمهورية، ولم ينعتوه بالديمقراطية، لما رأوا من الرعب بعد الثورة الفرنسية. وفي يوم قبل انهيار حائط برلين، كانت عصابة "هونيكر" في ألمانيا الشرقية تمسك رقاب العباد، وتسمي نفسها جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حتى انهار الحائط بدون قطرة دم، وعرف أن كل مواطن شرقي كان له ملف عند (الاستازي" لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، بما فيها زجاجات مخمرة من عرق المشبوهين ولعابهم، علها تنفع يوم الحساب، إلى أن قامت ألمانيا الغربية بشراء الشرقية بما حوت من مدر وبشر. وتعترف مجلة "الشبيجل" الألمانية أن الحكومة الفيدرالية، صبت في عروق ومفاصل الشرقية الكسيحة المتصلبة 1350 مليار يورو بدون فائدة. وهو نفس المصير الذي ينتظرنا في جمهوريات العرب الثورية. وعندما طار رأس صدام بقي رماد وخرافات من شيعة وسنة يقتتلون؛ فبعد موت الإنسان في ظل الأنظمة الشمولية، لابد من كنس جيل كامل، وحرق أمة ميتة، كما تحرق الجثث للطهارة في نهر "الغانج"... ويعتبر "جيوفاني سارتوري" من جامعة "فلورنسا" أحد أعمق الباحثين في قضايا العلم السياسي، وقد وضع هو و"شوم بيتر" و"روبرت داهل" نظريات في الديمقراطية، تقول إن مقولة حكم الشعب للشعب بالشعب ولصالح الشعب، لا تزيد عن خرافة، وإن الشعب يذبح ويلعن باسم الشعب. وإن الحكم هو دوماً للنخب والأقليات و"المقاولين السياسيين". وعندما تدخل مدينة دمشق تقرأ شعارات "البعث": كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب! لكن من هم أعداء الشعب؟ وهل يمكن أن يكون كل الشعب هذا العدو في لحظة؟ وفي كثير من بلدان العرب، من يحكم هم طوائف وعائلات مسلحة حتى الأظافر والأسنان، تحت شعار الديمقراطية. ففي جمهورية عربية يحكم الرئيس لفترات طويلة باسم الديمقراطية، وينتخب بكل نزاهة، وسيحكم مرات قادمة. وقد مات "تركمان باشي"، بعد أن حكم بلاده سنين طويلة، ووصفه الرفاق بأنه مهد الطريق للديمقراطية الحقيقية، بعد أن حرم زرع الأسنان الذهبية، وغير أسماء الأشهر باسمه. ومصيبة ديمقراطية في ثلاثة جوانب: في التعريف والآلية والمآل. فحول تعريفها، لا يدعي أحد أن عنده لها تعريفاً جامعاً مانعاً، كما يقول المناطقة؛ فهم مثل الشعراء في كل واد يهيمون. والآلية أنها آلة انتخابية لأخذ رأي الناس، لكن النخب بنفوذها والمال الذي فيه تسبح، عندها من الإمكانية أن تفبرك القرار، وتضحك على الجماهير، كي تقودهم إلى الرق السياسي. ومن الغريب أن زيادة الرفاهية في البلدان الصناعية، لم تزد من إقبالهم على صناديق الانتخابات، والجمهور غير مكترث، ولا يعبأ أو يصدق كثيراً مما يحدث. وفي ألمانيا سألت زميلاً لي يوماً عن رأيه فيما يحدث؟ قال: إنهم نفس الذباب الذي يحوم على نفس القذارة! ولم يكن ينتخب. خلاصة القول إننا في عالم العروبة، نهرع إلى كل شعار وسراب مهطعين. ففي الصيف "نخرطش" السلاح مع "حزب الله"، وفي الشتاء نخرطش السلاح ضده! وحالياً يطالب "حزب الله" في لبنان، بتنظيم انتخابات نزيهة كي يكسب 11 وزيراً، بمن فيهم الوزير "كش ملك"، فيبتلع لبنان بأفضل من ازدراد أفعى الآناكوندا قرد بابون غافل. وتصبح لبنان مفك براغي، لآلة الشرق الأوسط، ميكانيكها اسمه بزديج بزدران. وهو يذكر بما قاله الوردي عالم الاجتماع العراقي الشيعي الذي كان يضحك من خرافات الشيعة والسنة، ثم يضحك على نفسه: كل من يتحدث بالعدالة والحق والمنطق فعليك أن تتأكد من صحة عقله! واليوم ليس هناك من مكان تزوّر فيه إرادة الجماهير مثل الجمهوريات. والمجالس الشعبية التي هي مجالس للتصفيق والتزوير... والعبرة ليست في الصناديق بل في وعي الجماهير. وبيننا وبين الوعي مسيرة سنة ضوئية.