أعادت قمة الرياض مؤخراً طرح موضوع "الهوية العربية" طرحاً قوياً جاء بوسائل وأساليب مختلفة، فمن تصريح لقائد عربي كبير، إلى مقررات توافق عليها المؤتمرون في صيغ متعددة، جاء موضوع الهوية العربية وتعزيزها "ودعم مقوماتها ومرتكزاتها وترسيخ الانتماء إليها في قلوب الأطفال والناشئة والشباب وعقولهم" كواحدة من أبرز الرسائل التي وجهتها القمة إلى "كل من يهمه الأمر" من عرب وغير عرب، للقول إن "الهوية العربية بخير". هذه الرسالة تبدو شديدة الأهمية في ضوء ما ورد في خطاب خادم الحرمين حول الاحتلال الأميركي غير الشرعي للعراق، وتأكيده على أن العرب يجب ألا يسمحوا لأي من القوى المتصارعة بصنع مصيرهم ومستقبلهم. فهذه التأكيدات هي -كما نعتقد- في جوهر ما تتطلبه عملية إعادة بناء الهوية العربية على أسس جديدة تسمح بتكوين مجموعة من عوامل القوة التي يتطلبها بناء الهوية وتعزيز دورها وفاعليتها في العلاقات العربية- العربية، كما في العلاقات العربية مع القوى الخارجية سواء كانت إقليمية أم دولية. ما تجدر مناقشته في هذا الباب، ومن ضمن أطروحات "القمة" نفسها، ما جرت الإشارة إليه من وسائل وأدوات ضرورية في هذا المجال، من دعوة لتطوير التعليم ومناهجه في العالم العربي بما يعمق الانتماء العربي المشترك ويستجيب لحاجات التطوير والتحديث والتنمية الشاملة ويرسخ قيم الحوار والإبداع ويكرس مبادئ حقوق الإنسان والمشاركة الإيجابية الفاعلة للمرأة. وكذلك الدعوة لتطوير العمل العربي المشترك في المجالات التربوية والثقافية والعلمية عبر تفعيل المؤسسات القائمة ومنحها الأهمية التي تستحقها والموارد المالية والبشرية التي تحتاجها خاصة في ما يتعلق بتطوير البحث العلمي والإنتاج المشترك للكتب والبرامج والمواد المخصصة للأطفال والناشئة، وتدشين حركة ترجمة واسعة من اللغة العربية وإليها، وتعزيز حضور اللغة العربية في جميع الميادين بما في ذلك وسائل الاتصال والإعلام والإنترنت وفي مجالات العلوم والتقنية. لوهلة تبدو هذه الأهداف غاية في الصعوبة على مستوى التحقيق العملي، وهي أهداف قديمة متجددة جرى طرحها في كثير من القمم والمؤتمرات والمنتديات الثقافية والسياسية دون إجراءات عملية حقيقية، لكنه يمكنها أن تكون ركيزة أساسية لأي عمل عربي مشترك، ولكنها بقدر ما تبدو صعبة فهي، في الوقت نفسه، يمكن أن تكون سهلة المنال، والأمر هنا يعتمد على مدى الرغبة في تحقيقها. والرغبة هنا لا تتعلق بتوجهات القيادات السياسية وحسب، بقدر ما ترتبط بمدى ما يمكن للمؤسسات الرسمية والأهلية القيام به في هذا السياق، وهو أمر يرتبط بدوره بمجموعة من العناصر المتداخلة والمتوازية والمتشابكة في آن. تتعلق المسألة أولاً بقدرة دولنا ومجتمعاتنا على نبذ التفرقة التي تبدد الجهود والطاقات، وتمنع قيام مشاعر الوحدة بين الشعوب والحكام، فحين يتمكن هؤلاء الحكام من التحول نحو نمط من الحكم يحترم الشعوب وقدراتها ويمنحها الفرصة للتعبير والمشاركة، يمكن لهذه الشعوب أن تبدع في تحقيق أهدافها في الوحدة والحرية وبناء المستقبل الواعد والغد المشرق لأبناء الأمة العربية جميعاً، وليس لفئات وشرائح قليلة منها كما هو الحال اليوم. كما تتعلق المسألة -ثانياً- بتوفير الوسائل والإمكانيات القادرة على تجاوز الراهن المتخلف نحو غد حافل بتحقيق الأحلام على كافة المستويات، وذلك من خلال الممارسة العلمية والتقنية والاقتصادية التي هي سرّ تماسك أي مجتمع، الأمر الذي يجعل الوجود العربي فاعلاً في النظام الدولي، وبما يمنحه إمكانية الحصول على الحقوق المشروعة في العيش الكريم بين الأمم، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل العجز والاستهتار في هذه المجالات. فالنجاح في هذه الميادين يتطلب ممارسة جماعية ولا يمكن أن يتم فقط من خلال السعي إلى النجاح المادي الفردي، كما أنه يتطلب توجيه كل جهود النخب العربية، الفكرية، السياسية، الاقتصادية، والعسكرية.. الخ، لخدمة هذه التوجهات. ويبقى السؤال: كيف يمكن أن نحقق طموحاتنا في ظل معطيات الواقع العربي الراهن، بكل ما يعانيه هذا الواقع من ضعف وفرقة من جهة، وفي ظل الهجمة علينا والصراعات من حولنا، من جهة ثانية؟ فمن جهة ما يزال العرب لم يحددوا تماماً من هو العدو ومن هو الصديق؟ وما زالوا يختلفون حول طريقة الدفاع عن النفس ضد هذا العدو، وما إذا كان الاعتماد على القوى العظمى، أم الاعتماد على وحدة العرب، هو الحل. الأمر الذي يبقي المخاوف على هويتنا ومستقبلنا مخاوف قائمة وتتزايد حدة يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام. فهناك دائماً من يعلق ناقوس الخطر، لكن ليس هناك من يجازف ويضع الخطوة العملية الأولى على طريق الخلاص الجماعي لهذه الأمة! رئيسة رواق عوشة بنت حسين الثقافي - دبي