ظلَّ الهاجسُ الأمني في منطقة الخليج العربي مُؤرقاً للدول المطلة عليه، خصوصاً بعد "حادثة" الفراغ الأمني إثر رحيل بريطانيا عن الخليج في أوائل السبعينيات واستقلال بقية دول الخليج، وتحرّك شاه إيران آنذاك -بمساندة خارجية- ليلعب دور "شرطي الخليج"، في ظل ضعف أو عدم وجود قوة تقف أمام جيشه القوي. وكان "التوجّسُ" من وصول الجيش الأحمر إلى مياه الخليج الدافئة، أحد الأسباب التي عجّلت بقيام دول الخليج بإجراءات للدفاع عن نفسها، وعقد اتفاقيات مع الولايات المتحدة. ومحاولة لكسر "طموحات" تصدير الثورة الإيرانية -التي قادها الخميني- إلى بقية دول المنطقة، ومحاولة تحريك طائفي -في بعض دول المنطقة- وقفت بعض هذه الدول مع صدام حسين في حرب ضروس فاقت خسائرُ الأرواح فيها المليون بين الطرفين، وتم "استنزاف" ميزانيات دول المنطقة، حيث ظهرت "ثقافة" شدِّ الحزام في بعض الدول، وتأخرت مشاريع البنى التحتية لسنوات بعد انقضاء الحرب. بعد غزو صدام للكويت، ظهرت مقولةٌ أخرى للأمن في المنطقة، وتمثلت في الحذر من إعادة "ابتلاع" دولة من دول المنطقة لدولة أخرى، وسقطت مقولة "الفكر القومي" لدى الخليجيين، خصوصاً بعد تلاشي الحماس لقذف إسرائيل في البحر، وعقد اتفاقيات ومعاهدات السلام معها. خلال تلك الفترة من الأحداث، كانت إيران -ولا زالت- تحتل جزر الإمارات الثلاث، ولم تستجب لكل مناشدات ومساعي منظومة مجلس التعاون، في حل المشكلة على أساس الحوار المباشر أو اللجوء إلى القضاء الدولي. ومع مجيء الرئيس أحمدي نجاد إلى سدّة الحكم في إيران، توالت التصريحات النارية ضد دول المنطقة، من الجانب الإيراني، على التواجد الأميركي في المنطقة، وكانت التهديدات واضحة باستهداف المصالح الأميركية في الخليج. وفي حقيقة الأمر، فإن دول مجلس التعاون تجد نفسها اليوم أمام منعطف سياسي وعسكري خطير، إذ أنها لا "تأمن" النيّات الإيرانية، إن هي ألغت اتفاقياتها المعقودة مع الولايات المتحدة، كما أنها -في ذات الوقت- لا تأمن بقاء "موسم" العسل فيما بين دول المنطقة! وبالتالي فإن بقاء القوات الأميركية في الخليج، مهما كانت النتائج -على الأرض- في العراق، أمر محتوم خصوصاً في ظل تلاشي العمق الاستراتيجي العربي، وانحسار المدّ القومي الذي قوّضه قادته. ويرى الأمين العام لمجلس التعاون عبدالرحمن العطية أن هناك خلافاً جوهرياً بين الرؤى الإيرانية للأمن في الخليج، ورؤى مجلس التعاون الخليجي لهذا الأمر. فإيران تريد خليجاً مغلقاً تقود فيه صيغة الأمن، ودول مجلس التعاون تريد خليجاً منفتحاً على العالم ومرتبطاً بالمصالح الإقليمية والدولية، ولا يفرق بين دوله الأخرى. ومن هنا يجيء أيضاً التباين في المواقف بشأن الوجود العسكري الأميركي، فإيران ترفضه من الأساس، ودول المجلس ترى فيه الضامن المرحلي المباشر والموازن للأمن في الخليج. وفي ظل هذه التباينات برز موضوع ملف إيران النووي، واستحداثات إيران في المفاعلات، خصوصاً مفاعل "بوشهر" القريب جداً من بعض عواصم مجلس التعاون، ليشكل عنصراً جديداً لحتمية المواجهة بين إيران والولايات المتحدة، بعد أن هيّأت -الأخيرة- المسرح بإدراج إيران ضمن "محور الشر". ولقد ردّت إيران على تلك الاستهدافات الإعلامية بشكل عملي من خلال إطلاقها صواريخ بعيدة المدى -خصوصاً البحرية منها- بالتزامن مع المناورات العسكرية الأميركية التي جرت في الخليج قبل فترة، كما زادت في تدخلاتها الاستخباراتية والأمنية في العراق، وهو موضوع يُحرج القيادة الأميركية، ويُلجئها إلى إعادة حساباتها فيما لو شعرت بضرورة توجيه ضربة استباقية للمنشآت النووية في إيران. وهنالك "انشقاق" عربي حول مدى خطورة الدور الإيراني -خصوصاً الدور النووي- فبعض الدول العربية -البعيدة عن تداعيات تدمير أو تسرب المواد من المفاعلات في مياه الخليج- ترى أن الولايات المتحدة تحاول أن "تخلق" عدواً للعالم -كما فعلت قبل احتلال العراق- وبالتالي تُجيّر رأياً عاماً عالمياً ضد إيران تمهيداً لضربها. وترى تلك الدول العربية البعيدة أن إيران النووية والقوية هي رادع لوقف الأيدي الإسرائيلية عن التمدد داخل شؤون البلاد العربية والإسلامية، وأن القوة النووية الإيرانية قد تُشكل ضماناً أو خطاً للتوازن مع القدرات النووية الإسرائيلية. وهنالك من يرى من الخليجيين، أن "تشجيع" الولايات المتحدة على ضرب إيران ستكون له نتائج كارثية على دول المنطقة، خصوصاً على إمدادات النفط، وتدمير البنى التحتية التي دأبت دول المجلس على بنائها طوال أربعين عاماً. وهنالك من يرى ضرورة إيجاد أرضية لترتيبات أمنية -تكون من ضمنها الورقة الإيرانية- وهذا يسدّ الطريق على واشنطن فيما لو حاولت "المغامرة" بتوجيه ضربات وقائية ضد المنشآت النووية الإيرانية! وينطلق هؤلاء من واقع الجوار الجغرافي وضرورة وضع آليات لتفاهمات مستقبلية مع إيران، لأن دول المجلس لا يمكنها "اقتطاع" إقليمها من جغرافيا المنطقة والرحيل بعيداً عن إيران، لكن الأميركان لربما يحملون حقائبهم ويرحلون وقتما شاءوا! وعلى الجانب الآخر تقف الأيديولوجيا كفزّاعة لكلا الطرفين -الفارسي والعربي- متجاوزة صلة الدين، الذي يختلف فيه الطرفان. فدول المجلس عانت من تحريك إيران للجماعات الشيعية وتأليبها للوقوف ضد النظام ومؤسساته، ولقد أدت تلك الحالة إلى ظهور اضطرابات واهتزازات أمنية في بعض الدول، وحدوث حالات إرهاب وقتل وتفجير منشآت في دول أخرى، بل هنالك من تسجّل حالات شراء "نهمة" للأراضي من قبل بعض الإيرانيين والشيعة في دول المنطقة كما حدث في أجزاء من لبنان أيضاً! وخلاصة القول: إن أية ترتيبات أمنية في منطقة الخليج ينبغي أن تجمع دول المنطقة وإيران والولايات المتحدة، وبدون هذه الثلاثية قد لا تنجح أية محاولات لترتيبات أمنية، بل وقد تصبح تلك المحاولات "استفزازاً" للطرف الغائب عنها!