أثارت الثقافة الشعبية الأميركية مؤخراً، مسألة تأثير ثورة المعلومات على مسار الديمقراطية. ومن جانبها أشارت مجلة "تايم" إلى أن شبكة الإنترنت تمكن المواطنين من التواصل، والحصول على المعلومات، ما يعني إسهامها في حفز مشاركة الفرد في العملية الديمقراطية. غير أن "باري ليفنسون"، مخرج فيلم "رجل العام" الذي بث مؤخراً، حذر من خطورة وضع الديمقراطية لنظامها الانتخابي، بيد الشركات والجماعات التي تحركها مصالحها الربحية، وتعتمد اعتماداً كلياً على نظام الاقتراع الإلكتروني، الذي هو ليس بمأمن من الوقوع في الأخطاء. وفي الفيلم المذكور، يرتكب نظام الاقتراع الإلكتروني خطأً إحصائياً لصالح مرشح رئاسي مستقل، أدى الدور الكوميدي فيه روبن ويليامز. وعلى إثر نجاحه، يخلص الرئيس في خدمة أهم القضايا التي تهم المواطنين والناخبين. لكنه ومن فرط أمانته، يستقيل في نهاية الأمر من منصبه الرئاسي، ما أن يدرك أن فوزه بذلك المنصب، قد حدث عن طريق خطأ إلكتروني. لكن وعلى عكس تلك القصة المتخيلة في الفيلم، فإن الذي حدث على أرض الواقع الانتخابي في ولاية فلوريدا، في الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2000، هو أن المرشح الرئاسي "الخاسر"، جورج بوش، هو من أصبح رئيساً للجمهورية بالفعل، نتيجة للتجاوزات الانتخابية التي شهدتها الولاية. وما كان من هذا الرئيس، فيما بعد، إلا أن خاض مغامرة إمبريالية واسعة النطاق في الخارج، بينما انقض على الحريات المدنية والديمقراطية في الداخل. وإذا كان تعريف الديمقراطية هي حكم الشعب من أجل الشعب، فإنه لم تتضح بعد، الكيفية التي تعزز بها ثورة المعلومات، التجارب الديمقراطية. أما الشيء المؤكد، فهو أن هذه الثورة تسهم إسهاماً ملحوظاً في تمزيق النسيج الاجتماعي لمختلف المجتمعات. فنتيجة لتوفر مئات القنوات التلفزيونية والفضائية والإذاعية، وآلاف غرف النقاش والدردشة المنتشرة عبر الإنترنت، فقد انقطعت أواصر الكثير من البشر، مع الحياة الاجتماعية اليومية، بكل ما لها من أهمية في الحفاظ على النسيج الاجتماعي. وبالنتيجة، فقد طال التهديد، رأس المال الاجتماعي المتمثل في المواطن المتفاعل النشط، وكذلك الجمعيات والروابط الاجتماعية المختلفة، مع العلم بأن هذه جميعاً، تمثل الأساس الذي تبنى عليه المشاركة الديمقراطية. ولطالما واصلت الشركات والمؤسسات الربحية، نهجها في إرضاء النزعة الفردية للمواطنين، عبر توفير كل ما يحتاجه من وسائل اتصال، عن طريق المحاكاة الحاسوبية للحياة الاجتماعية الفعلية، فإن من الطبيعي أن تضعف الأواصر الاجتماعية بين الفرد والآخرين، في مقابل نمو نزعة اللامبالاة السياسية عنده. وفي حقيقة الأمر، فإن رأس المال الاجتماعي للأفكار والروابط والتضامن الاجتماعي، وليس النزعة الفردية، هو الذي أشعل تلك الثورات الديمقراطية التي اكتسحت منطقة شرقي ووسط أوروبا بأسرها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. وفي المقابل فإن اللامبالاة السياسية، هي التي تفسر وحدها، إمكانية إفلات الرئيس الأميركي جورج بوش، وحليفه البريطاني توني بلير، من المحاسبة على ما ارتكباه، بتزييفهما للحقائق، وتجاوزهما للعملية الديمقراطية، إلى آخر الأساليب التي جعلت غزوهما المشترك للعراق ممكناً. وبسبب هذه اللامبالاة السياسية، فقد انطمست الفروق في الولايات المتحدة الأميركية، بين الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، فيما يتعلق بموقفهما من حرب العراق. ذلك أن تنصل "الديمقراطيين" من المسؤولية قد أثر سلباً على حزبهم باعتباره حزباً معارضاً. وبالقدر ذاته، فقد تجلى ضعف الممارسة الديمقراطية في أميركا، واضحاً في تحول وسائل الإعلام الرئيسية فيها، من سلطة رابعة تمثل الشعب وتحافظ على الديمقراطية، إلى بوق للسلطة، لا هم له ولا عمل، سوى تمجيدها وخدمة أجندتها المعادية للشعب الأميركي. وبالمقارنة بما يحدث اليوم، فقد رفضت صحيفة "واشنطن بوست" الانصياع للضغوط التي مارسها عليها البيت الأبيض في عقد السبعينيات. وتمكن اثنان من محرريها، من الإطاحة بالرئيس الأسبق نيكسون، في نهاية المطاف. أما صحيفة "نيويورك تايمز" فقد قدمت من جانبها مصلحة الشعب على مصلحة القائمين على السلطة في البيت الأبيض، فاجترأت على نشر وثائق "البنتاجون" وقتئذ. ولكن من المؤسف أن ذات الصحيفتين تحولتا الآن إلى بوق وطبل لاستقطاب التأييد الشعبي لشن الحرب على العراق! فكيف تسهم ثورة المعلومات في تعزيز المسار الديمقراطي إذن؟