هل يمكن أن تؤدي المبادرة العربية التي نوقشت في مؤتمر القمة الأخير -إذا قبلتها الدولة الإسرائيلية- إلى إنهاء المقاومة، وبداية التسوية السياسية لحل الصراع العربي- الإسرائيلي الذي امتد عقوداً طويلة، مما قد يؤدي إلى التعايش بين الشعب الإسرائيلي والشعب الفلسطيني العربي؟ سؤال جوهري يحتاج إلى إجابات تفصيلية، وضعاً في الاعتبار السياق التاريخي للصراع، والمواجهات العسكرية التي حدثت بين أطرافه، وضروب المقاومة التي اشتعلت ضد الاحتلال، ونوعية التسوية التي تمت بين مصر والأردن والدولة الإسرائيلية، والتي لم تؤدِّ -كما كان مأمولاً- إلى تعايش حقيقي نظراً لتجميد عمليات التطبيع. وقد أتيح لي أن أناقش هذه الأمور جميعاً حين دعتني الدكتورة نادية أبو غازي أستاذة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، لكي أفتتح المقرر الذي تدرسه هذا العام بمحاضرة عن "ثقافة المقاومة". وحين تأملت الموضوع بعمق تبين لي أن المقاومة جزء من منظومة أعم تشمل العلاقات المختلفة بين الدول في حالات الصراع، والتي قد تبدأ بمواجهة عسكرية، قد تسلم إلى مقاومة تعيد صياغة موازين القوى فلا يلبث الطرفان أن ينغمسا في تسوية سياسية، قد تنتهي في النهاية إلى تعايش سلمي بين الشعوب المتصارعة. تنطبق هذه النظرية التي تتعلق بالصراع بين الدول على عديد من حالات الصراع الدولية الشهيرة. وقد خطر في ذهني على الفور الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية وفيتنام الشمالية. دارت المواجهة العسكرية بين الطرفين، والتي كانت بالغة الشراسة ونجحت القوات المسلحة الفيتنامية تحت القيادة السياسية العبقرية لـ"هوشي منه" أن تلحق بالقوات المسلحة الأميركية هزيمة ساحقة، وليس ذلك فقط بل لقد تم توحيد فيتنام بعد إسقاط النظام في فيتنام الجنوبية. وما لبثت جهود التسوية السلمية أن بدأت وانتهت باعتراف أميركي كامل بفيتنام الشمالية. وبعد أكثر من عشرين عاماً من الهزيمة الأميركية زار الرئيس كلينتون فيتنام، واعتبرت هذه الزيارة صلحاً تاريخياً يرمز إلى التعايش السلمي بين الشعب الفيتنامي والشعب الأميركي. ولو ولينا وجوهنا إلى الصراع العربي- الإسرائيلي لاكتشفنا أن نظرية الصراع الدولي تنطبق عليها تماماً. ويمكن القول إن مقاومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني التي قام بها الشعب الفلسطيني والتي كانت ثورة "عز الدين القسام" رمزها البارز في الثلاثينيات، سبقت المواجهة العسكرية بين الدولة الإسرائيلية التي أعلنت عام 1948، والتي دارت بينها وبين الجيوش العربية. ويمكن القول إن المقاومة الفلسطينية قبل عام 1948 بالرغم من كل البطولات التي دارت فيها فشلت في مقاومة امتداد الاستعمار الصهيوني واستفحاله، ولذلك تنادت الدول العربية وعلى رأسها مصر للدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الدولة الإسرائيلية. وهزمت الجيوش العربية في المعركة لأسباب متعددة لا مجال للخوض فيها الآن، وإن كان أبرزها اختلال ميزان القوى في التسليح والتعبئة بين إسرائيل والبلاد العربية، بالإضافة إلى الدعم البريطاني والغربي للدولة الإسرائيلية الناشئة، والتي حقق إنشاؤها مصالح الدول الاستعمارية الطامعة في النفط العربي. وللمرة الثانية -بالرغم من مرور عقود طويلة على هزيمة عام 1948 واختلاف الظروف السياسية وتنامي القوة المصرية- هزمت مصر هزيمة ساحقة في حرب يونيو 1967 نتيجة فشل القيادة السياسية المصرية في إعداد البلاد للحرب، والعشوائية في اتخاذ القرار السياسي وفساد وعدم كفاءة القيادة العسكرية. وعقب الهزيمة تم إحياء المقاومة الفلسطينية بعد أن نشأت منظمة التحرير الفلسطينية لترفع راية المقاومة المسلحة من جديد بقيادة ياسر عرفات، غير أن الهزيمة لم تثبط همة القيادة السياسية المصرية في ضرورة الاستعداد لجولة عسكرية ثانية تم التخطيط لها جيداً. وهكذا قامت حرب أكتوبر 1973 بمبادرة مصرية سورية وتحققت فيها نجاحات مصرية ساحقة، أهمها على الإطلاق عبور خط بارليف، وقطع الذراع الطويلة لإسرائيل التي كانت تزعم أنها تستطيع ضرب أي دولة عربية. وقد أدت الحصيلة الإيجابية -من وجهة النظر العربية- للمواجهة العسكرية الحاسمة بين مصر وإسرائيل، إلى فتح الطريق أمام التسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي. وهكذا عقدت اتفاقية كامب ديفيد بمباركة أميركية، وأعقبتها المعاهدة المصرية- الإسرائيلية، والتي بناء عليها انسحبت إسرائيل من كافة الأراضي المصرية المحتلة بدون استثناء، ما عدا "طابا" التي عادت لمصر بالتحكيم الدولي. اكتملت الدائرة إذن من المقاومة إلى المواجهة المسلحة إلى التسوية السلمية، غير أن التعايش السلمي لم يتحقق بين الشعب الإسرائيلي والشعب المصري، لأن المجتمع المصري بكافة فئاته وفي مقدمته المثقفون والإعلاميون والمهنيون وأساتذة الجامعات، قرر تجميد التطبيع إلى أن تتوقف إسرائيل عن ممارسة سياساتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني وإلى أن تنشأ الدولة الفلسطينية المستقلة. وها نحن بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وبعد حصاد مختلط من الإيجابيات والسلبيات، نعود مرة أخرى إلى مائدة المفاوضات من جديد مع إسرائيل. والدول العربية لديها هذه المرة "خريطة طريق" عليها إجماع عربي لأول مرة هي "المبادرة العربية"، والتي أعلنت حكومة الوحدة الفلسطينية قبولها وتبنيها كاملة غير منقوصة. وفي نفس الوقت صدرت تصريحات إسرائيلية تنزع لأول مرة إلى تهدئة الصراع، نتيجة ممارسة الولايات المتحدة الأميركية لضغوط دبلوماسية على إسرائيل، بعد إدراكها المتأخر أن حل قضية الشعب الفلسطيني من خلال إقامة دولته المستقلة هي مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط كله. وعلينا في الفترة المقبلة أن نراقب بدقة تطورات الأمور بعد مؤتمر القمة، ونتساءل: هل ستجلس إسرائيل مع الدول العربية على مائدة تفاوض واحدة لحل الصراع في ضوء المبادرة العربية؟ ونحن نعرف سلفاً أن المبادرة العربية تتضمن مطالب عربية محددة وتضع شروطاً متكاملة للاعتراف بالدولة الإسرائيلية، كمقدمة لإقامة سلام دائم مع العرب. والسؤال إلى أي مدى ستتحلى القيادة الفلسطينية في ظل حكومة الوحدة بالواقعية السياسية حتى تتقدم المفاوضات؟ لقد درجت حكومة "حماس" على تكرار أنها لن تعترف بإسرائيل مما كان يغلق الباب أمام أي مفاوضات فلسطينية- إسرائيلية. وفي نفس الوقت لم تتوقف إسرائيل عن إصدار تصريحات سياسية مستفزة عن نيتها في تهويد القدس، وفي الاحتفاظ بمساحات شاسعة من أراضي الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية. هل ستتحقق المرونة السياسية لدى كلا الطرفين، أم أن الغباء السياسي ومعاندة التاريخ سيكون هو سيد الموقف؟ سؤال تجيب عليه الأحداث القادمة.