تشهد الدولة هذه الأيام مسح إنفاق ودخل الأسرة الذي تنفّذه وزارة الاقتصاد، بالتعاون مع دائرة التخطيط والاقتصاد بأبوظبي، ومركز دبي للإحصاء. وفي ظل ندرة البيانات الإحصائية التي تخدم وتساعد في رسم الخطط والسياسات المتصلة بظروف معيشة السكان، خاصة في خضم التحوّلات الاقتصادية الكبيرة التي تشهدها الدولة حالياً، يكتسب هذا المسح أهمية كبرى للتعرف إلى أنماط وأنواع الإنفاق الاستهلاكي، وتبيان متوسطات إنفاق الأسرة والأفراد على السلع والخدمات المختلفة، والوقوف على العوامل المؤثرة في ذلك كالتعليم والجنسية والحالة الاجتماعية، وتوفير الأوزان التي تعكس الأهمية النسبية لبنود الإنفاق المختلفة التي تستخدم في بناء الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين وقياس معدلات التضخم. وإذا كانت النتائج النهائية لهذا المسح ستترجم في إعادة رسم سياسات الأسعار، ووضع سياسات جديدة للأجور تتوافق مع مستويات التضخم التي سيتم حسابها بدقة من نتائج هذا المسح، فإن هذه النتائج لن تظهر قبل النصف الثاني من العام المقبل، بحسب برامج الجهات المضطلعة بهذه المهمة، ما يطرح تساؤلات مهمة حول طبيعة الأوضاع المعيشية والمعالجات المنتظرة خلال فترة الانتظار هذه، والتي تمتد إلى ما يقرب من عام ونصف العام، وهي فترة طويلة يتخللها العديد من التطورات في مضمار التضخم، الذي بات يُنظر إليه على أنه الهاجس الوحيد الذي يؤرّق الجميع، وأصبح أثره في النمو الاقتصادي أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. وإذا كان هذا المسح المنتظر سيعطي معلومات تفصيلية حول إنفاق الأسر ودخلها وسكنها وأسلوب معيشتها، خلال النصف الثاني من العام المقبل، فإن الجانب الآخر في هذه القضية، والمتصل بالأسباب الحقيقية وراء ارتفاع أسعار السلع في الدولة، تظل واضحة للجميع، ولكنها رغم ذلك لم تُتّخذ الإجراءات الكفيلة بالحدّ من تبعاتها وانعكاساتها السالبة، إلا في حدود ضيقة. فهناك مجموعة من الأسباب الداخلية وراء ارتفاع أسعار السلع في الدولة، في مقدمتها الارتفاع الكبير الذي سجلته أسعار العقارات وإيجارات المساكن والمحالّ، واحتكار شريحة من المتعهدين والموزعين للسلع، والسعي لتحقيق أرباح قياسية من بعض الفئات، وعدم وجود جهة رقابية مختصّة، وعدم فعالية الإجراءات الرادعة للمخالفين، وقلّة وعي المستهلكين، وعدم فعالية (جمعية حماية المستهلك)، بسبب عدم توافر الدعم الكافي لها، وفي ظل دخول متغيرات خارجية في المعادلة، من قبيل انخفاض قيمة الدولار، ومن ثم قيمة الدرهم بالتبعية، وارتفاع أسعار الواردات السلعية، خاصة من منطقة اليورو، تتسم الرؤية المستقبلية للأسعار في السوق المحلية بمزيد من الضبابية، ما يجعل من الصعب معرفة حدود الموجة التضخمية المتصاعدة، التي بدأت تفرز مشكلات اقتصادية واجتماعية كبيرة، على حساب الطبقة الوسطى، التي تمثل أكثر من 80% من المجتمع الإماراتي، وهي صمّام الأمان، والعمود الفقري للمجتمع، وتخلق التوازن المطلوب حتى لا تطغى الطبقة الفقيرة أو الثرية على النسيج الاجتماعي، ولكن هذه الطبقة بدأت تتقلص بوضوح جرّاء الارتفاع المتواصل لأسعار مختلف السلع والمنتجات الاستهلاكية، والتي لا تجد كابحاً لضبطها. إن استمرار هذا الوضع سيقود على المدى البعيد إلى اتساع قاعدة الفقر، واختلال نظام توزيع الدخل والثروة، مما يؤدي إلى خلل في تركيبة المجتمع، وما يتبعه من إفرازات اجتماعية خطيرة وركود اقتصادي يحمل معه مزيداً من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية