الأدب المبدع هو الرافعة الإنسانية للجوهر المشترك بين الحضارات والثقافات. في الأدب تنصهر هموم الإنسان, وأحزانه, وأفراحه, وأحلامه, وتتجرد على طبيعتها الأولية, فيظهر كم هو الإنسان واحد عندما يتخفف من أثقال الإيديولوجيات والحدود المتخيلة الصلبة والتخندق الثقافي والحضاري المفروض عليه بوحشية السياسة ومطامع الاقتصاد. والكتاب هو الحامل التاريخي لإبداعات البشر, وأفكارهم, ومخزن تجاربهم الثرية. هو الجسر الذي ظل واقفاً منذ عهد الكتابة السحيق وحتى الآن, رغم الدمار الذي حاق بالعالم وإنسانه في هذه المرحلة أو تلك. ظل الكتاب يحنو بحرص على ما وصل إليه الناس من جمال مشترك, يحفظه من التشوه ريثما تمر عواصف الكراهيات والعداوات المارة. وفي الكتب, كما في غير مكان من هذه البشرية أفكار وصور للجمال والبشاعة, للحب والكراهية, للتسامح والانتقام, وصراع بين ثنائيات لا تنتهي. الكتب ذات الأفكار الدامية ظلت معنا هي الأخرى, لكن ليشار إليها بإصبع الاتهام, ولترجم من قبل المنحازين لكون أجمل وعالم أكثر عدلاً وإنسانية. مهمة المنحازين لجمال الكون كانت صعبة على الدوام. ففي مواجهة حروب ودماء وصراعات, لجأوا, فيما لجأوا إليه, إلى أقلامهم وصحفهم يسطِّرون فيها أفقاً لحياة أكثر سلماً وحباً. أولى بدايات المهمة هي أن يصير الكتاب جليساً للناس. كلما قرأ الناس كتاباً انهدمت في قلاع الكراهيات لبنة. لذلك كله, حق للمنشغلين بالكتب والغارقين بهمومها في عالمنا العربي أن يفرحوا بما يحدث في أبوظبي في الآونة الأخيرة من إعادة اعتبار للكتب والكتاب. ففي هذا الأسبوع الأول من شهر إبريل كنا محظوظين لنشهد ربيعاً للكتب والأدب والثقافة في هذه الإمارة الجميلة. ربيع يحمل وعداً للمثقفين والأدباء والكتاب العرب بأن يتواصل سنوياً, ويفيض بغنى أدب الانفتاح والتواصل والانتصار لجوهر الإنسان. ثلاثة أحداث تضامنت ثقافياً فيما بينها هذا الأسبوع لمناصرة الكتاب وموضعته على رأس أجندة الاهتمام الوطنية, ومقدمة نموذجاً أدعى للتمثل والإشادة. أول تلك الأحداث هو معرض أبوظبي للكتاب وهو المتميز في أكثر من جانب هذا العام, بانفتاحه على فضاءات ممتدة حقاً سواء في كثافة الكتب المعروضة, أو مكانه الرحيب الجديد, أو أهمية الأسماء الأدبية والثقافية المشاركة فيه, أو عبر برنامج التعاون والمحاضرات الدولية المنسق مع معرض فرانكفورت للكتاب الدولي. برنامج الندوات الموازي للمعرض فيه من الأدب, والشعر, والترجمة, والفكر, والحوار بين مثقفين عرب وغير عرب ما يفيض جمعه في أكثر من كتاب. الحدث الثاني هو الإعلان عن نتائج "جائزة الشيخ زايد للكتاب", وهي الجائزة التي أعلن عن انطلاقها في وقت سابق من هذا العام. هيكلية الجائزة واتساع نطاق فروع الكتابة التي تطالها وقيمتها المادية الكبيرة, وفوق هذا وذاك رمزيتها العميقة عبر انتسابها للمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وما مثله ويمثله من نجاح وبناء وعطاء ليس على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة فحسب, بل وعربياً وإسلامياً, كل ذلك جدير بأن يدفع بالجائزة إلى مقدمة الأحداث الثقافية والأدبية العربية. ويجعل منها آلية سنوية تعزز من موقع الكتاب العربي, أدباً, وفكراً, وتنمية, وترجمة وسوى ذلك. أهمية أي جائزة للكتاب لا تنحصر في الإعلان عن الفائزين بها فحسب, بل تكمن في مقدار ما تثيره من حراك ثقافي ونشاط موازٍ وجدل إيجابي وإضاءات سواء على الأعمال المرشحة أو الفائزة أو تلك التي كانت ضمن القائمة القصيرة التي اختيرت من بينها الأعمال التي نالت الجائزة. لنا أن نفكر بجائزة نوبل للأدب مثلاً, والحراك الذي تثيره من نقاش ومراجعات وكتابات حول الأعمال المرشحة أو الفائزة. ما يُطالب به القائمون على "جائزة الشيخ زايد للكتاب", إضافة للجهد الواضح المبذول من قبلهم إدارة وتنظيماً وإعلاناً, هو ابتداع آليات موازية في نطاق الجائزة تحافظ على زخم متواصل على مدار العام, بحيث تتحول الجائزة إلى مؤسسة ثقافية متواصلة العطاء على صعيد الكتب. وبذلك يصبح حدث الإعلان عن الفائزين بالجائزة هو التتويج السنوي للزخم الثقافي والفكري القائم بالتوازي مع تقنيات وإداريات استقبال الأعمال المرشحة وفرزها وإحالتها للجان التحكيم. الحدث الثالث هو الإعلان عن انطلاق جائزة أخرى للكتاب, وهي الجائزة العالمية للرواية العربية, برعاية مؤسسة الإمارات. تتخصص هذه الجائزة في فن الرواية تحديداً, وبهذا فهي تتكامل, ولا تتنافس, مع "جائزة الشيخ زايد للكتاب" المتعددة الموضوعات. والرواية هي واحد من أرقى فنون الكتابة، وهي النوع الكتابي الذي أوصل كثيراً من الكتاب العرب إلى العالمية, وعلى رأسهم روائينا الكبير نجيب محفوظ الذي ظفر بنوبل. الجائزة العالمية التي ستمنح لأفضل رواية مكتوبة باللغة العربية كل عام صاغتها مؤسسة الإمارات بالتعاون مع مؤسسة جائزة "بوكر" للكتاب في بريطانيا, وهي الجائزة الأرفع للكتاب هناك, وإحدى أهم الجوائز الأدبية العالمية. ومن المؤكد أن هذه الجائزة ستقدِّم للأعمال الفائزة, وللأعمال المرشحة للفوز, بوابة واسعة للانطلاق نحو العالمية والترجمة والوصول بالأدب العربي إلى آفاق جديدة. ولعل المقيمين في الغرب والمطلعين على المشهد الثقافي هناك يدركون المعنى العميق لإحداث اختراقات ثقافية وأدبية عربية في المناخ القاتم المحيط بصورة العرب في الغرب والعالم في الوقت الحاضر. ليست مهمة الأدب أو مهمة جوائز الأدب القيام بما فشلت فيه جهات أخرى, لكن حصادها الإبداعي الناتج لما يحدثه الأدب لغايات الأدب ذاته تحقق الكثير. الأدب النابع من ذاته, وليس المؤدلج بالقضايا, هو أفضل خادم للقضايا العادلة. إنه الأقدر على إظهار أصحابها أناساً عشاقاً للحياة فحسب. عندما يتعالى المضطهد (بفتح الهاء) على جروحه ويكتب أدباً رفيعاً إنسانياً, يخرج من معاركه ظافراً. عندما لا يخضع لتشويهات المضطهد (بكسر الهاء) له ولروحه, فإنه ينتصر. عندما يتفادى أدب المضطهدين (بفتح الهاء) الانجرار إلى استخدام لغة واصطلاح وشراسة خطاب المضطهدين (بكسر الهاء), يتسامى قيمياً ويتجلى منحازاً إلى روح الكون الجميلة وما تظل تقدمه من أمل من دونه يصبح الإنسان وحشاً وبائساً. "ربيع الكتاب في أبوظبي" يبعث البهجة وسط رفوف الكتب المحاصرة بالإهمال الرسمي وغير الرسمي في العالم العربي. وكذا المحاصرة بالإهمال الإعلامي الفضائي الذي يغيب أية إطلالة أسبوعية مهما قصرت من شأنها أن تشجع مجالسة الكتب وإثارة النقاش حولها وحول ما فيها من أفكار. لو أعطت كل عاصمة عربية جزءاً من الاهتمام الظبياني الراهن للكتب لتضافر جهد عربي معمم يكافح الأمية الثقافية المحدقة بفضائنا الفكري. هذا ونعلم جميعاً أن الأمية بتعريفها الأوسع تتجاوز الأمية الأبجدية, وهي القدرة على القراءة والكتابة, إلى ما هو أخطر وهو الأمية الثقافية حيث عدم استخدام مهارة القراءة والعزوف عن الكتب وبالتالي الانتهاء إلى مآلات الجهل بما يحدث ويمور في عالمنا المحيط من أفكار وتصورات وسجالات ومعرفة تفيض بها ألوف الكتب التي تصدر كل يوم. نعلق أكليل شكر وفرح على صدر ربيع الكتاب في أبوظبي.