لا يستطيع المراقب الغربي لما يجري حالياً في إيران، على ضوء المواجهة التي دخلتها مع الغرب بسبب ملفها النووي، فضلاً عن أزمة احتجاز البحارة البريطانيين الأخيرة، إلا أن يحصر الجمهورية الإسلامية داخل نمطين تقليديين صارا لصيقين بها. يبرز النمط الأول من خلال تصريحات الرئيس محمود أحمدي نجاد إزاء إسرائيل، والداعية إلى محو الدولة العبرية من الخريطة، وترحيل اليهود إلى أوروبا؛ ثم النمط الثاني متمثلاً في الدولة الساعية إلى خداع المجتمع الدولي واكتساب السلاح النووي من خلال فرض الأمر الواقع. بيد أن هذه القوالب التي ساهمت إيران نفسها في تشكيلها وصارت ملازمة لها كلما ذكر اسمها في المحافل الدولية، لاسيما في الأوساط الغربية، هي ذاتها التي تحاول المراسلة الصحفية في جريدة "لوموند" الفرنسية "كلير تريان" استنطاقها ووضعها تحت مبضع التشريح في كتابها الذي نعرضه في هذه المساحة وعنوانه "المفارقة الإيرانية". تستند الكاتبة في سعيها الجريء إلى خلخلة بعض الأفكار السائدة حول إيران في العالم الغربي، على تجربتها الشخصية كإحدى أولى المراسلات اللائي زرن الجمهورية الإسلامية، وقد أمضت وقتاً طويلاً متنقلة بين المناطق المختلفة وملتقية مع مختلف الشرائح الاجتماعية. كلير كانت أيضاً أولى الصحفيات الغربيات اللائي زرن موقع المفاعل النووي بـ"ناتانز" ووقفت على الإجراءات الأمنية المشددة المحيطة بالموقع، حتى قبل أن يكتشف المجتمع الدولي وجود أنشطة سرية لتخصيب اليورانيوم تجري داخل تلك الأسوار. والمفارقة التي تحاول الكاتبة تسليط الضوء عليها في الكتاب تتجلى في الانفصام الواضح والجلي الذي لمسته بين الواقع الاجتماعي والأنماط السلوكية للمجتمع الإيراني من جهة، وبين الشعارات الثورية التي ترفعها الثورة من جهة أخرى. فإيران التي تشكل نسبة الشباب فيها 60% من مجموع السكان البالغ عددهم 70 مليون نسمة، تتجه أكثر فأكثر نحو أسلوب الحياة الغربية وتبتعد عن مظاهر التدين، حيث تسجل الكاتبة إقبال الإيرانيين على الحياة واحتفالهم بمظاهرها المختلفة، فضلاً عن وجود شريحة واسعة لا تحمل مشاعر مبدئية معادية للقيم الغربية في تقديسها للحرية الشخصية. ومع ذلك فهؤلاء الشباب ذاتهم هم من أداروا ظهورهم للمرشحين الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مفضلين منح أصواتهم لصالح المحافظ المتشدد -كما تصفه الكاتبة- محمود أحمدي نجاد. إنه الرئيس الذي شق طريقه إلى قمة الهرم السياسي في إيران بالاستناد إلى برنامج شعبوي خاطب من خلاله الشرائح المحرومة وتعهد بتقليص معدل الفقر والبطالة وبتوزيع عادل ومنصف لعائدات الثروة النفطية التي تزخر بها البلاد. يضاف إلى ذلك أن تصويت الإيرانيين لصالحه إنما يعكس في الواقع استياءهم من فساد طبقة رجال الدين الذين يستأثرون بمواقع القرار الرئيسية في السياسة الإيرانية، كما يعكس أيضاً سخط الإيرانيين من فشل الإصلاحيين في مواجهة المحافظين المتشددين وبلورة شعاراتهم على أرض الواقع. وقد شكل وصول أحمدي نجاد إلى الرئاسة وإطلاقه للتصريحات النارية، ثم تركيزه على الحق الإيراني في امتلاك التكنولوجيا النووية واعتبارها مسألة كرامة قومية، فرصة للانحراف عن تعهداته السابقة في المجال الاجتماعي وتحسين مستوى عيش الإيرانيين. وهو المسعى الذي نجح أحمدي نجاد، كما تقول الكاتبة، في ترسيخه بحيث أصبح الملف النووي مطلباً قومياً بعدما تم ربطه بالحضارة الفارسية، ما جعل أي تفكير في التنازل عنه إهانة في حق الشخصية القومية الإيرانية. وفي تطرقها للموضوع النووي الإيراني، استعرضت "كلير تريان" تطورات الملف منذ بدايته عندما اكتشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية انخراط إيران في أنشطة سرية لتخصيب اليورانيوم منتهكة اتفاقاً سابقاً مع الاتحاد الأوروبي حول تجميد أنشطتها النووية، ثم ما لحق ذلك من شد وجذب ينذران بتفجر الأوضاع. ولا تخفي الكاتبة رؤيتها لما يجري في معرض سردها لحيثيات وتفاصيل الملف النووي، إذ تعتبر أن "خطر القنبلة الإيرانية لا يكمن في إمكانية استعمالها، بل يكمن في توظيفها السياسي من أجل قلب الوضع القائم في الشرق الأوسط". وهكذا ترى الكاتبة أن تضافر التطورات، سواء على الساحة الداخلية الإيرانية بصعود المحافظين إلى السلطة وتبني خطاب متشدد، أو انعكاسات ذلك على الساحة الدولية فيما يتعلق بتداعيات الملف النووي، تساهم في رسم صورة إيران السلبية وحصرها في خانة "الدول المارقة" التي تهدد النظام العالمي بغض النظر عن مدى صحة الموقف الغربي. بيد أن إيران كما تبين مؤلفة الكتاب ذلك تتجاوز التنميط الإعلامي وتستعصي على محاولات التفسير المبنية على خطابات أحمدي نجداد ومواقفه المتصلبة، بل تنطوي إيران على مجموعة متشابكة من المتناقضات تظهر بشكل واضح لا لبس فيه من خلال تطلعات الشعب الإيراني إلى مزيد من الحرية والانعتاق من الوصاية التي يمارسها عليه النظام الديني. وهي الوصاية التي تعتقد الكاتبة أن النظام لن يتردد من أجل ضمان استمرارها في عقد صفقة مع الولايات المتحدة توافق من خلالها طهران على وقف تخصيب اليورانيوم مقابل حصولها على ضمانات أمنية بعدم الإطاحة بالنظام. لذا تدعو الكاتبة الجمهور الغربي إلى إيلاء اهتمام أكبر للتناقضات الإيرانية التي ظهرت في أصدق صورها خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جاءت في ظاهرها وكأنها مرآة عاكسة للإرادة الشعبية، إلا أن تلك الإرادة نفسها متنوعة وذات أبعاد مختلفة لا يمكن حصرها في صورة أحمدي نجاد أو غيره من رموز النظام الديني. ومع ذلك تحرص الكاتبة عندما يتعلق الأمر بالملف النووي أن تنبه الغرب إلى أنه محط إجماع شعبي واسع! زهير الكساب الكتاب: المفارقات الإيرانية المؤلفة: كلير تريان الناشر: روبرت لافون تاريخ النشر: 2007