تشهد الولايات المتحدة كل سنة ترحيل الآلاف من المهاجرين الشرعيين الذين أقاموا لفترة طويلة في أميركا إلى بلدانهم الأصلية، بسبب تورطهم في جنح بسيطة دون الأخذ في عين الاعتبار علاقاتهم العائلية المتشابكة في الولايات المتحدة، أو تاريخهم المهني، أو تغير سلوكهم واندماجهم في المجتمع. والأكثر من ذلك أن العديد من المرحَّلين يمنعون من دخول الولايات المتحدة مدى الحياة. وفي هذا الإطار، فإن اليوم (السبت) يسجل مرور عشر سنوات على إقرار قانون "إصلاح الهجرة غير القانونية ومسؤولية المهاجر"، الذي سلب، إلى جانب قانون آخر يدعى "مكافحة الإرهاب وتثبيت عقوبة الإعدام"، من القضاة الذين ينظرون في قضايا الهجرة، سلطتهم التقديرية وصلاحية البت في القضايا المطروحة أمامهم بحسب ما يمليه عليهم ضميرهم والأدلة المتوافرة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بترحيل مهاجرين أفنوا زهرة حياتهم في الولايات المتحدة، لا لشيء سوى لأنهم اقترفوا جنحاً بسيطة، وأظهروا مقدرة على إصلاح أنفسهم. واليوم أضحى المقيمون الشرعيون في أميركا بموجب القوانين الجديدة عرضة للترحيل إلى أوطان انقطعوا عنها منذ زمن طويل، ومن دون أدنى سلطة تقديرية في يد القاضي قد توقف الترحيل. والأسوأ من ذلك أن الكونجرس وسع من نطاق القانون ليتجاوز الجرائم الخطيرة إلى الجنح البسيطة، التي قد لا تستحق بمقتضى قوانين الولايات حتى عقوبة السجن. وطيلة العقد الأخير الذي شُرّع فيه الترحيل القسري للمقيمين تم ترحيل العديد من الأشخاص لأمور مختلفة ومتفاوتة الأهمية مثل السرقة من أحد المحلات، أو القفز على حواجز في قطارات الأنفاق، أو القيادة في حالة سكر، أو حتى تلك المتعلقة بحيازة كميات صغيرة من المخدرات. واللافت أن بعض هؤلاء المرحَّلين جاءوا إلى الولايات المتحدة وهم مازالوا في المهد، ولم يعرفوا حياة أخرى عدا تلك التي عاشوها في أميركا. فمنهم من جاء إلى الولايات المتحدة كلاجئ هارب من الاضطهاد والتنكيل، أو كطفل تبنته عائلة أميركية. وعلى سبيل المثال تم ترحيل رجل لأنه تبول في مكان عام، علماً بأنه قدم إلى الولايات المتحدة من كمبوديا هرباً من التقتيل الذي مارسه نظام "الخمير الحمر"؛ فالرجل الذي يعمل مشرفاً على أعمال البناء، قدر بأنه قد لا يضير أحداً إن هو قضى حاجته في ورشة مهجورة بجانب مكان عمله. وفي هذا الإطار كشفت الدراسات التي أجراها أساتذة في جامعتي "هارفارد" و"كاليفورنيا" أن المهاجرين يرتكبون عدداً أقل من الجرائم والجنح، مقارنة مع الذين ولدوا في أميركا. والعديد من الذين يتورطون في مشاكل مع القانون، وهم غالباً في سنوات العشرينات من عمرهم، يصبحون لاحقاً عناصر متميزة وكثيراً ما يفيدون المجتمع. ولعل حالة "ماني أوش" أفضل مثال على اندماج المهاجر في مجتمعه، حيث تمت إدانته في قضية للسطو المسلح ليصبح بعد قضاء مدته في السجن صاحب محل خاص به، ومدرب إحدى الفرق الرياضية، فضلاً عن عمله التطوعي في برنامج يستهدف مساعدة الشباب، ومع ذلك صدر القرار بترحيله ولا يمكنه حتى استئناف ذلك. وفي مثال آخر لا يقل مأساوية تم ترحيل "واين سميث" إلى خارج الولايات المتحدة رغم كل ما قام به لصالح المجتمع. فبعد أن أدين "واين" في قضية حيازته لمخدر الكوكايين ومحاولة توزيعه استطاع التغلب على إدمانه للمخدرات وأصبح سجيناً نموذجياً بشهادة المشرفين على السجن. والأكثر من ذلك عمل "واين" على استكمال دراسته، وهو وراء القضبان من خلال الانتساب إلى جامعة كولومبيا، كما أشرف على تنسيق الخدمات المسيحية داخل السجن. وبعد أن أطلق سراحه استمر في العمل مع الكنيسة لتوفير خدمات للسجناء، واستطاع الحصول على منحة لاستكمال دراسته العليا، حيث أصبح مستشاراً في معالجة الإدمان على المخدرات وافتتح عمله الخاص الذي يوظف العشرات من الأشخاص. وعندما علم بأن زوجته مصابة بسرطان الثدي وقف إلى جانبها خلال أحلك الفترات، كما أنه كان أباً عطوفاً على أبنائه، لكن ذلك لم يشفع له وتم ترحيله في النهاية. هذا الترحيل للمقيمين الشرعيين خارج الولايات المتحدة كثيراً ما يتسبب في تمزيق العائلات وتدميرها. فقد تم ترحيل "جيراردو موسكيرا" بعد ثلاثة عقود قضاها في الولايات المتحدة لأنه باع ما قيمته عشرة دولارات من مخدر "الماريجوانا" لأحد الأشخاص تبين أنه يعمل مع الشرطة. وعند ترحيله ترك "جيراردو" وراءه زوجة وأربعة أطفال كلهم يحملون الجنسية الأميركية، وبعد ثلاثة شهور من الحادثة أقدم ابنه الذي يبلغ من العمر 17 سنة على الانتحار. ولم يسمح لوالده بدخول الولايات المتحدة لحضور الجنازة. ولوضع حد لهذا العبث الذي يعاني منه المقيمون بصورة شرعية في الولايات المتحدة لابد من إعادة السلطة التقديرية للقضاء وتخويله الصلاحيات الضرورية للبت في قضايا الترحيل قبل اتخاذ القرار الصعب. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى قانون حماية الأطفال الذي رعاه عضو مجلس النواب "خوسيه سيرانو" ويمنح القاضي الأخذ في عين الاعتبار بمصلحة الأطفال الذين يحملون الجنسية الأميركية قبل ترحيل آبائهم. والواقع أنه لا يمكن استكمال إصلاح القوانين المتعلقة بالهجرة في الولايات المتحدة دون مراعاة مصلحة الأطفال من حملة الجنسية الأميركية، وإبقائهم ضمن أسرهم الطبيعية. ومن الصعب أيضاً تفهم القوانين الصارمة جداً التي تطبق على المهاجرين الشرعيين، بينما قامت السلطات العسكرية في العام الماضي، حسب التقارير الإعلامية، بتنجيد حوالى 12% من الجنود ممن ارتكبوا جرائم في السابق وأظهروا تغييراً في سلوكهم. ألا يجدر تطبيق ذات المنطق مع المقيمين الذي أظهروا قدرة كبيرة في إصلاح أنفسهم والتغيير إلى الأفضل؟ راشيل روزنبلوم ـــــــــــــــــــــــــــ باحثة في مركز "حقوق الإنسان والعدالة الدولية" في بوسطن بأميركا ـــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"