المولَجون بالعقائد وتحديد الصراط المستقيم هم في العادة اللاهوتيون بلغة المسيحيين، وعلماء الكلام أو علماء أصول الدين بلغة المسلمين. وفي العادة أيضاً لا تبحثُ عن التسامح لدى اللاهوتيين لأن مهمتهم النبذ والطرد والتهميش والتصفية والغربلة، ولعلّ ذلك عائدٌ إلى وظيفتهم أو مهمتهم. فعلماء اللاهوت الكاثوليك والأرثوذكس المختصون معنيون بتطبيق قرارات المجامع الكنسية بين القرن الرابع والسادس على الخصوص. وقد حددت تلك المجامع ما عُرف بقانون الإيمان ببنوده الأثني عشر، لكن لكل بند من البنود تفاصيل كثيرة يظلُّ التوفيقُ فيها ممكناً، والتكفير والإخراج من الكنيسة ممكناً جداً. وعلماء الكلام المسلمون يحاولون بحسب عقائد فِرَقِهِمْ تحديد قانون للإيمان إذا صحّ التعبير، والذي لا اتفاق بشأنه إلا على ثلاثة عناصر: وحدانية الله، والرسل والكتب السماوية، واليوم الآخر. وتأتي الاختلافات بشأنه لجهتين: لجهة إضافة عناصر أخرى إليه مثل "الإمامة" عند الشيعة، و"العدل" و"المنزلة بين المنزلتين" عند المعتزلة، والقضاء والقدر عند أهل السُّنة. والجهة الأخرى التدقيقات والتفصيلات في كل مبدأ من تلك المبادئ أو العناصر من مثل علاقة الذات الإلهية بصفاتها، ومن مثل الرسالات السماوية وهل هي لطفٌ أو رحمةٌ وعناية، والبعث وهل هو روحاني فقط أم روحاني وجسماني... إلخ. لكن تلاحظون أنني أتحدث منذ البداية عن أمرين: العقائد الدينية أو لاهوت الأديان من جهة، ورجال الدين أو المؤسسة المولَجة بحماية هذه العقائد وتعليمها والتبشير بها. فما هي العناصر التي ينبغي توافرها في نظر علم الدين المقارن لكي تعتبر هذه المنظومة أو تلك ديناً؟ إنها خمسة عناصر بالإجمال: الذاتُ العليا أو الفكرة العليا، والنصوص المقدسة، والشعائر والعبادات، والنظامُ الأخلاقي، والمؤسسة الحاميةُ والداعية. والملاحظ أن علماء الدين المقارن متفقون تقريباً، على تقسيم الديانات إلى مجموعات: الدياناتُ الطبيعية، وديانات التوحيد، والديناتُ الآسيوية الكبرى، والديانات الغنوصية، ودياناتُ الأزمنة الحديثة. وتختلف العناصر الخمسة فيها بشكل أو بأكثر، ويريد فلهلم دلتاي وماكس فيبر التعبير عن ذلك بأنه اختلاف في "رؤية العالم". ولأن السائد اليوم بل ومنذ عشرات القرون المجموعات الآسيوية والتوحيدية، فهناك مَنْ يريد التمييز بينهما على أساس الرؤية للعالَم سالفة الذكر. فالديانات الآسيوية ذات رؤية داخلية، والديانات التوحيدية وهي اليهودية والمسيحية والإسلام ذات رؤيةٍ حصرية وتبشيرية. ولكي نستوعب موضوعنا مرة أخرى ونحدده نقول، إن الذي نُعنى به إنما هو ديانات التوحيد لأنها هي التي تتحدى العصر والعصرُ يتحداها، والنزاع على مستوى العالَم ناشبٌ فيما بينها وعليها. ولنتذكر قولة الدالاي لاما، زعيم بوذيي التبت بعد تحطيم تمثالي بوذا بباميان عام 1999، قال الدالاي لاما: "ما جنى على البشرية دينٌ أو مذهبٌ فكريٌ كما جنت المسيحية وجنى الإسلام، فهذان الدينان لم يكتفيا بتحريض أتباعهما على التصارع فيما بينهم، بل خاضا حروباً عشوائية مدمّرة، أو أن حروباً شُنّت باسميهما في سائر أنحاء العالم، لقد هدفا دائماً إلى إلغاء حضارات وثقافات وإنسانية الآخرين المختلفين". تقول الديانات التوحيدية بالفعل بحصرية الحقيقة، وحصرية الخلاص من طريقها، صحيحٌ أن كلاً منها تُنكر على الأخرى هذا الأمر، لكن الإله المتفرد بالوجود والخلق والتدبير لدى الديانات الثلاث يأبى الشريك، فهو بحسب العهد القديم غيورٌ يأبى الأنداد والأمثال، ويحاسبُ الخَطَأةَ والمذنبين حتى الجيل السابع، وفي القرآن الكريم: "إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". وفي الإنجيل: مَنْ آمن بي وإن مات فسيحيا. لكنّ المسيحية والإسلام على الخصوص دينان تبشيريان، أي أنهما يريدان الامتداد والسواد، ولذلك صارا ويصيران إلى تنازلات أو تسويات إذا صحّ التعبير لتحقيق ذلك. وهنا يأتي دور المؤسسة الدينية، وتأتي طبيعة العلاقة بالدولة والنظام السياسي، والتجربة التاريخية لكلا الدينين المسيحي والإسلامي تُظهر تشابهاً واختلافاً في هذين الأمرين بالذات، فالدينان متشابهان في أنهما ارتبطا بالمؤسسة السياسية تبعية أو استتباعاً في مراحل طويلة من تاريخهما. وقد أثر ذلك في انتشارهما وأحياناً في تطورهما اتّساعاً أو رحابة أو ضيقاً أو امتداداً، لكنهما ما ذابا أبداً أو توحدا أو اندمجا بأي نظام أو ترتيبٍ سياسيٍ. وعند هذا الحد ينتهي التشابهُ في التجربة. واختلف الدينان أو اختلفت تجربتهما الانحصارية والاستيعابية لعدة جهات، فالمسيحية قَسَتْ من الناحية الدينية على القرينين: اليهودية والإسلام، وما اعترفت بهما إلا في القرن العشرين وعلى مراحل وتفاوت، بينما رعى النصُّ الإسلامي المقدس النَسَب الإبراهيمي لأهل الكتاب من اليهود والنصارى المؤمنين بالإله الواحد. ورغم قسوة الدينين على "المشركين"، فإن الدولة الإسلامية -وتسهيلاً للإدارة والدعوة في الوقت نفسه- اتسع تسامحها ليضم إلى أهل الكتاب الزرادشتيين والبوذيين والهندوس، فما اضطهدت عقائدهم وبشرهم،، لكنها منعت المسلمين من الأكل من ذبائحهم أو التزوّج بنسائهم. ولنلاحظ أنني عندما ذكرتُ طرائق التعامل مع المجوس وغيرهم، ذكرتُ الدولة الإسلامية، ولم أذكر علماء أصول الدين المسلمين، وهذا أمرٌ غير متصوَّر لو أن الأمر تعلق بالمسيحية. فالمؤسسة الدينية المسيحية شديدة القوة والأهمية والمركزية في المسيحيتين الكاثوليكية والأرثوذكسية. وذلك لأنها هي التي تُدير شؤون الخلاص والنجاة، وهي التي تُدخل في الدين وتُخرج منه. وكل شأنٍ من الشؤون له علاقة بالفرد الإنساني هو شأن عقائديُّ محوطٌ بأسرار كثيرة، ومن الصلاة والقُدّاس، وإلى الزواج، ولذلك لا يمكن أن يُحدث خارج الكنيسة. وهكذا تجلت الحصرية في العقيدة، وتجلّى قانون الإيمان، في الكنيسة الحارسة والراعية والمقدّسة قدسية المسيح نفسه الذي ائتُمنتْ على أسرار صلبه وقيامته وفدائه. وقد كانت لهذه المركزية والحصرية فوائدهما وسلبياتهما، فقد حفظتا شكلاً من أشكال التماسك، وأمّنتا استمراريةً استطاعت تخطّي أزماتٍ مصيرية، لكنها من جهةٍ أخرى، أي هذه المركزية، أفضت إلى انقساماتٍ وتشرذماتٍ كثيرة عبر القرون، كما أفضت إلى حروب ونزاعات دينية كانت فيها الكنيسة مبادِرة ومستخدمة لسلطة الدولة أو حتى جيوش البابا ومحاكم التفتيش. وفي النهاية تفجرت تلك المركزية من الداخل وبشكلين، في أواسط القرن الحادي عشر الميلادي حدث الانفصال النهائي بين الكاثوليك والأرثوذكس وليس العقيدة بشكل أساسي، بل في المؤسسة، بحيث صارتا مؤسستين. وفي القرن السادس عشر تفجرت الكنيسة الكاثوليكية مرة أخرى لتظهر التذررات البروتستانتية التي تتضاءل فيها فكرة الكنيسة إلى أبعد الحدود. وما حدث ذلك في الإسلام، ليس لأن المؤسسة غير موجودة كما يقول كثيرون، بل لأن القائمين على المؤسسة الدينية في الإسلام هم الفقهاء وليس المتكلمين أو علماء أصول الدين. والفقهاء لا يُعنون بالشكل العقدي، بل بالتعامل بين الناس. وعلى مرّ القرون تبلورت مهام الفقهاء الذين يعتبرون أنفسهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور التالية: الاشتراع واستنباط الأحكام الفقهية، والفتوى، وقيادة الشعائر، والتعليم الديني. وقد انتمى علماء أصول الدين إلى أحد المذاهب الفقهية، وانصرفوا للتشاجُر فيما بينهم، لكن لأن المؤسسة مفتوحة، وقانون الإيمان الحصري والمحدّد البنود والمتفق عليه غير موجود، ولأن الفقهاء هم المسيطرون وليس المتكلمين، فإنّ الانقسامات لم تكثُر، والحروب الدينية لم تقع، رغم وجود الحساسيات العقدية بين المعتزلة وأهل السُّنة، وبين الشيعة والسُّنة، بيد أن السبب الأهمّ لعدم حدوث النزاع هو عدم التنافس بين الفقهاء والدولة. إذ إنّ الكنيسة الكاثوليكية أردات استتباع الدولة واستطاعت ذلك لفترة من الزمن، ثم تكسرت النِّصال على النِّصال، بينما جرى تقسيمٌ للعمل في المجال الإسلامي بين الفقهاء والدولة: الدولة تدير الشأن العام ولا تتدخل في الشأن الديني، والفقهاء يديرون الشأن الديني الخاص والتشريع، ولا يتدخلون في الشؤون الإدارية والسياسية التنفيذية. ... وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا هذا الثورانُ الإحيائيُّ في الإسلام؟ ولماذا هذا الصراع بين الدين والدولة؟ وأين التسامحُ من كل هذا الذي يحدث؟ إن الذي حدث في النصف الثاني من القرن العشرين وفي الإسلامين السُّني والشيعي ظهورُ عقائديين جُدُد (وليس علماء كلام جدد)، تسلّموا المرجعية إلى حدٍ بعيدٍ من الفقهاء، وبذلك ازدادت المؤسسة الفقهية التقليديةُ ضعفاً. بيد أن الذي أضعف المؤسسة الفقهية أكثر تهميشُها واستتباعها من جانب الدولة بحيث اتسع الفراغ وسارع العقائديون الأصوليون إلى ملئه، ونشر صورتهم الانقسامية عن العالم. والصورةُ عن العالم عندهم -كما قال ابن لادن- أنه منقسم إلى فسطاطين أو معسكرين: معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر (المكوّن من اليهود والصليبيين). ومعسكر طهوري وحصري وإقصائيْ يسوده مبدأ "الولاء والبراء"، لهذا لا مجال فيه للتنازل والتسامح والتسويات، وليس تجاه العالم فقط، بل تجاه المسلمين الآخرين أيضاً. ويختلف المهتمون في تحليل أسباب ذلك، وفي كيفيات الخروج منه، منهم من يقول -مثل إرنست غلنر- إن النصّ الإسلامي يسمح بظهور الأصوليات والتشدد في أزمنة الأزمات. ومنهم من يقول إن الإصلاح الديني في المجال الإسلامي يحصل، ولذلك استطاع العقائديون الإسلاميون كسب جمهورٍ واسعٍ على وقْع مقولة دمج الدولة بالدين أو إخضاعها له ولهم. ومنهم من يقول إن التجربة السياسية العربية والإسلامية الحديثة، أظهرت فشلاً في التنمية الداخلية وفي إدارة الشأن العام، وفي توسيع المشاركة، والتداول السلمي على السلطة، والتصدي لتحديات الخارج وضغوطاته ومستوطناته (إسرائيل)، فأفاد الإحيائيون من ذلك الفشل وشنوا هجماتهم على الدولة وعلى الخارج الهاجم وما خذلهم الجمهور المحبَط والمستنفَر. والذي أراه أن الموجة الكبرى تكسَّرت، وأن التيار الرئيسي في الحركات الإسلامية ما عاد يقول بالعنف الداخلي أو الخارجي. لكن الرؤية الفصامية للعالم ما تزال سائدةً بين المعتدلين والمتطرفين على حدٍ سواء. وهكذا فالذي ينبغي العمل عليه التنميةُ المستدامة لخرط الفئات الفقيرة، وإصلاح المؤسسية الدينية التقليدية وإطلاق سراحها، والتغيير السياسي السلمي، والعمل على مشاركة العالم في الثقافة والقيم الإنسانية.