الصفقة الكورية- الإثيوبية و"صِدام الثوابت" في السياسة الأميركية
بعد ثلاثة أشهر على نجاح الولايات المتحدة في حمل مجلس الأمن الدولي على فرض عقوبات صارمة على كوريا الشمالية بسبب التجربة النووية التي أجرتها، يفيد مسؤولون أميركيون كبار بأن إدارة بوش سمحت لإثيوبيا باستكمال صفقة سلاح سرية مع كوريا الشمالية، في ما يبدو خرقاً لهذه العقوبات. إلا أن الولايات المتحدة سمحت بوصول شحنة الأسلحة إلى إثيوبيا في يناير الماضي لأسباب تعود في جزء منها إلى حقيقة أن إثيوبيا تشن هجوماً عسكرياً على المليشيات الإسلامية في الصومال، وهي حملة تنسجم مع السياسة الأميركية لمحاربة المتطرفين الدينيين في منطقة القرن الأفريقي.
وقد أفاد مسؤولون أميركيون بأنهم حثوا إثيوبيا على أن تكف عن الاعتماد على كوريا الشمالية في الحصول على المعدات العسكرية رخيصة الثمن التي تعود لزمن الاتحاد السوفييتي، وأن المسؤولين الإثيوبيين أبدوا تجاوباً مع هذه المطالب. ويمكن القول إن صفقة الأسلحة هذه تعد مثالاً للتوافقات التي تنتج عن صدام بين ثابتين من ثوابت السياسة الخارجية: التزام إدارة بوش بمحاربة الراديكالية الإسلامية، وجهودها الرامية إلى حرمان حكومة كوريا الشمالية من الموارد المالية التي يمكن أن تستعملها لتطوير برنامج أسلحتها النووية.
والواقع أنه منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وفي وقت جعلت فيه الإدارة الأميركية محاربة الإرهاب في مقدمة أولويات سياستها الخارجية، يبدي البيت الأبيض أحياناً استعداداً لغض الطرف عن تصرفات بعض الحلفاء التي كان يمكن أن ينتقدها في حالات مختلفة من قبيل انتهاكات حقوق الإنسان في آسيا الوسطى وأعمال القمع المنافية للديمقراطية في عدد من البلدان العربية.
ثم إنها ليست المرة الأولى التي تتغاضى فيها إدارة بوش عن صفقات يعقدها حلفاء مع كوريا الشمالية. ففي 2002، أوقفت أسبانيا سفينة محمَّلة بصواريخ "سكود" كانت متوجهة من كوريا الشمالية إلى اليمن. وقتها، كان اليمن يتعاون مع الولايات المتحدة، ويعمل معها على تعقب أعضاء "القاعدة" الناشطين داخل حدوده؛ ونتيجة لذلك، طلبت الولايات المتحدة من أسبانيا الإفراج عن السفينة بعد احتجاج الحكومة اليمنية، التي أعلنت أن الأمر يتعلق بآخر شحنة ضمن صفقة قديمة لشراء الصواريخ، وتعهدت بأنها لن تتكرر.
وقد وافق مسؤولون أميركيون من عدد من الوكالات الحكومية على تقديم تفاصيل عن الحلقة الإثيوبية شريطة عدم الكشف عن هوياتهم لأن الأمر يتعلق بموضوع مناقشات داخلية في البيت الأبيض. وأوضح عدد منهم أنهم علموا بالأمر لأول مرة عندما أخبرت الحكومةُ الإثيوبية السفارةَ الأميركية في العاصمة أديس أبابا بذلك بعد تبني مجلس الأمن الدولي في الرابع عشر من أكتوبر قراراً بفرض العقوبات على بيونج يانج. وفي هذا السياق، يقول أحد المسؤولين الأميركيين: "إن الإثيوبيين قدِموا إلينا وقالوا: حسناً، إننا نعلم أن علينا أن ننتقل إلى زبائن جدد، ولكننا لا نستطيع أن نقوم بذلك بين عشية وضحاها"، مضيفاً "وقد تعهدوا بالتعاون معنا على أعلى المستويات".
وكانت وكالات استخباراتية أميركية أفادت في أواخر يناير المنصرم بأن سفينة شحن إثيوبية يُرجح أنها محملة بقطع غيار خاصة بالدبابات ومعدات عسكرية أخرى قد غادرت أحد موانئ كوريا الشمالية. وإذا كانت قيمة الشحنة غير معروفة، فإن إثيوبيا اشترت -حسب التقديرات الأميركية - ما يعادل 20 مليون دولار من الأسلحة من كوريا الشمالية في 2001، وهو نمط يقول المسؤولون الأميركيون إنه استمر بعد ذلك. يُذكر هنا أن الولايات المتحدة تمنح إثيوبيا ملايين الدولارات في إطار المساعدات الخارجية، إضافة إلى معدات عسكرية غير قاتلة.
وبعد نقاش قصير في واشنطن، اتُّخذ قرار بعدم عرقلة صفقة الأسلحة، مع التشديد في الوقت نفسه على ضرورة الضغط على إثيوبيا كي لا تعقد صفقات مقبلة مع كوريا الشمالية.
ويرى "جون بولتون"، الذي ساهم في الدفع بقرار فرض العقوبات على كوريا الشمالية في مجلس الأمن الدولي في أكتوبر الماضي قبل أن يتنحَّى عن منصب السفير الأميركي في الأمم المتحدة، أن الإثيوبيين كانوا يعلمون منذ مدة أن واشنطن قلقة بشأن مقتنيات الأسلحة من كوريا الشمالية، وأنه كان يجدر بإدارة بوش ألا تسمح بوصول شحنة يناير. وفي هذا الإطار، يقول "بولتون"، الذي أوضح أنه لم يكن يعلم بهذه الصفقة قبل أن يتم الاتصال به من أجل الإدلاء برأيه في إطار هذا المقال: "كي نوضح للجميع حزمنا وموقفنا من هذا الأمر، كان علينا أن نذهب إلى الإثيوبيين ونقول لهم إن عليكم أن تعيدوها"، مضيفاً "أعلم أنهم كانوا متعاونين في الصومال، ولكن ثمة برنامج أسلحة نووية في كوريا الشمالية لا يخدم مصلحة أحد في العالم".
أما "شين ماكورماك"، المتحدث باسم وزارة الخارجية، فقد رفض التعليق على تفاصيل شحنة الأسلحة، ولكنه قال إن الولايات المتحدة "ملتزمة جداً باحترام قرارات مجلس الأمن وفرض تطبيقها".
ومما يجدر ذكره أن الولايات المتحدة كانت صارمة في فرض قرارات مجلس الأمن الدولي في حالات أخرى. ففي أواخر العام الماضي على سبيل المثال، تعقبت وكالات الاستخبارات الأميركية سفينة كورية شمالية كان يشتبه في أنها تحمل أسلحة سرية، ومارست واشنطن ضغوطاً على دول مختلفة لرفض السماح للسفينة بالرسو، قبل أن تسمح لها ميانمار، أو بورما سابقاً، بذلك، مشددة على أنه لا توجد خروقات.
ومن المعلوم أن دولاً أفريقية عديدة عُرفت بإقبالها على شراء المعدات العسكرية رخيصة الثمن من كوريا الشمالية، ومنها إثيوبيا التي تتوفر على ترسانة من دبابات "تي- 55"، كانت اشترتها قبل عدة سنوات من الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية. وعلى مدى سنوات، كانت تلجأ إلى كوريا الشمالية لاقتناء قطع غيار لدباباتها وغيرها من المعدات العسكرية.
ويشدد المسؤولون الأميركيون على أنهم يواصلون الضغط على إثيوبيا، التي لم تقدم ضمانات بأنها لن تقبل مستقبلاً بشحنات أسلحة أخرى من كوريا الشمالية، إلا أنها أخبرت الولايات المتحدة بأنها ستبحث عن مزودين آخرين لشراء الأسلحة. وفي هذا الإطار، يقول أحد المسؤولين الأميركيين المستجوِبين: "يبدو أن لهم استعداداً للقيام بالأمر الصحيح".
مايكل جوردون ومارك مازيتي
محررا الشؤون الخارجية في "نيويورك تايمز"
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"