تصافحني في زحمة معرض الكتاب في أبوظبي: مرحباً, أنا منى من "بتير" شقيقة قريتك "وادي فوكين" (وكلتاهما امتداد قريب لجغرافيا وروح بيت لحم). أهلاً بك. أنت تعرفني وأنا صغيرة في الابتدائي عندما كنا جيراناً في المفرق, في الأردن. ثم انتقلنا إلى الزرقاء، ومن ثم إلى عمّان كما فعلتم. ثم جئنا إلى هنا. أهلاً وسهلاً بك (لكن ذاكرتي ما زالت نائمة). أنا بنت أبو محمد وأم محمد حلاوة. آه, هتفت مندهشاً, الله ما أصغر الدنيا. كيف حالك وكيف حال أهلك؟ قالت: كيف حالك وكيف حال أهلك أنت أيضاً؟ كيف عرفتني؟ قالت أنت في بريطانيا, وأقرأ ما تكتب، وكنت أراك على الشاشة. أمي تزغرد فرحاً بك كلما رأتك, وتترحَّم على والدتك. وتقول هذا "الوادي" هو ابني أيضاً. أنا صرت أم "يزن", وأبنائي وبناتي بين الجامعة والعمل. قلت لها وأنا صرت "أبو ليث" وابني وابنتي بين المدرسة والمدرسة. أضافت, أذهب وزوجي "أبو يزن" إلى "بتير" من سنة لأخرى. وعندما نقطع جسر نهر الأردن عائدين بعد إجازة الصيف نذرف في النهر دمعاً ساخناً. تحمرُّ عيوننا ووجوهنا خجلاً من إدارة ظهرنا لـ"بتير". "بتير" أجمل مكان في العالم, هي صرة الكون. وأنا عندما أقطع المتوسط قاصداً بلاد الضباب أودع في مائه دمعه. لكن أناكفها وأقول إن "وادي فوكين" أخضر مكان في العالم ومركز الكون. بين القريتين مسافة زغرودة. عندما تدق صبايا "بتير" طبول عرس ما, ترد صبايا "الواد" بأغنية ورقصة. سهاد الكلام أخذنا على حين مصافحة إلى عالم فسيح. اليوم كلتا القريتين تكافح جداراً عنصرياً يريد فصل الأرض الحمراء عن ينابيع الماء، التي توضأ بها أنبياء وأولياء منذ انبلج الزمن. زميلتنا شيرين أبو عاقلة, وجه فلسطين التلفزيوني الطيب, والتي ترافقتُ وإياها في ندوة على هامش المعرض, تضحك من أعماقها وهي تشهد علينا تنافسنا القروي. شيرين ابنة بيت لحم أيضاً. هي من المدينة ونحن من قلادة القرى حولها. تتصل منى بأمها وأبيها في عمّان على الفور. تقول لهم: أنا أسلم على خالد ابن أبو خالد. أحادثهم: أصافح المفرق وعمّان في صوت الخالة والعم. شيرين لا تزال تبتسم. تقول: أأخذت إجازة استراحة من فلسطين لأراها هنا. أقول لها: هي في كل مكان. في المساء احتضنا جميعاً صوت البحر "الظبياني" جالسين جميعاً على "مقهى هافانا". كنا أزيد من خمسة عشر نتوزع على ثلاثة أجيال, يربطها سحر تلحمي خاص. واحد منا كان من فضاء الخليل، فمنحناه حق اللجوء السياسي على الطاولة: ابن الدوايمة محمود القيسية, أحد أعرق الوجوه الفلسطينية في أبوظبي. أبو علي, حسن أبو نعمة, طاف الأرض ولسانه مطعم "بلهجة أهل بتير". أصر على استلهام عادة أهل "بتير" قبل اللجوء وطلب أرجيلة عجمي, وهي ما اعتاد أبوه أن يقدم لضيوفه على سبيل الإكرام "أيام العز". بقية "البتاترة" هنا هم "أبو يزن" وأبو أحمد اللذين جاءا منذ أكثر من ثلاثين سنة يرصعان اللغة العربية وسط أجيال طالعة هنا. "أم يزن" و"أم أحمد" محاطتان بأبناء وبنات تشع وجوهم بحبور محبب, لكأنما طلعوا للتو من ينابيع الماء من هناك. شيرين وصديقتها عُلا المقيمة هنا أيضاً ترقبان كأنما تسجلان مشهداً فريداً وطريفاً. وأنا ابن "وادي فوكين", أشعر بأنني محاصر بـ"البتاترة", لكن ذلك لم يوهن من فكرة للهجوم لمعت في رأسي. استغللت حشد الأجيال وقدمت مرافعة قانونية باسم أهالي "وادي فوكين" ضد عملية السطو التاريخي التي قامت بها الثقافة الشعبية الفلسطينية إزاء تسمية الباذنجان الذي دأبت على إنتاجه قريتنا على مدار عقود لكنه نسب إلى "بتير", وصار معروفاً بـ"الباذنجان البتيري". كنت قد عرفت من أجدادي وجداتي وأبي وأمي أن "وادي فوكين" هي مصدر ذلك الباذنجان الشهير الذي يعرفه كل الفلسطينيين بتسميته "المحرفة تاريخياً". كان من المفروض أن تكون تلك التسمية "الباذنجان الوادي" نسبة إلى "وادي فوكين". واليوم وفي هذه الأمسية الظبيانية الجميلة قررت أن أصحح التاريخ، وعلى مرأى ومسمع طرف محايد: الدوايمي محمود القيسية, ابن "القارة" المجاورة للخليل, والمستشار المخضرم. قلت لهم ضاحكاً سأستغل كل المهارات السياسية والقانونية التي تعلمتها في بلاد الفرنجة كي أعيد "الحقوق إلى أهلها". تمنيت لو كانت زميلتي شيرين تحمل معها كاميرتها التلفزيونية كي تسجل اللحظة الفاصلة! في بداية المرافعة تفاجأت مسروراً بأول تقهقر في الفيلق "البتيري". أبو أحمد أقر بأن أغلب كميات الباذنجان المنتجة في منطقة بيت لحم مصدرها "وادي فوكين" وأنها تنسب جميعاً إلى "بتير" من دون أي سبب مقنع. شجعني هذا الاعتراف المبكر على التقدم بقواتي المدفعية شوطاً كبيراً إلى الأمام. واجهت "أم يزن" بتحدٍّ كبير: لماذا لم تتواجد "محاشي الباذنجان البتيري" على طاولة العشاء إن كان أصله من "بتير" حقاً؟ لم تستطع إلا أن ترد بابتسامة محببة. تدخل أحمد, شقيقها الأصغر وحاول بمهارة من يعمل في سوق الأسهم رد الهجوم باتجاهي. رفضت تدخله لأنه لم يكن قد وُلد بعد عندما تجمعت عائلاتنا في المفرق ونشأت تلك العلاقة الحميمة. انسحب من الميدان على الفور. تحدثنا عن مخيم "الدهيشة" في قلب بيت لحم، إذ جمع أعداداً غفيرة من قريتينا إلى جانب قرى عديدة من المنطقة بعد أن دُفع الأجداد إلى الهجرة ومغادرة أراضيهم وقراهم بعد حرب 1948. أبو أحمد وجه إليَّ ضربة قاصمة عندما ذكر لي أن أعداداً كبيرة من أهالي "وادي فوكين" لجأوا إلى مخيم الدهيشة رغم أن القرية لم تسقط بالكامل في قبضة القوات الإسرائيلية يومها. أنكرت الاتهام بكل قوة, رغم أن ذلك كان سابقاً لوجودي على هذه الأرض بسنوات طويلة. أصر أبو أحمد على اتهامه. لم تكن لدي أدلة دامغة لإفحامه, فرجوته ألا يبوح بهذا السر التاريخي الخطير, وقلت له لكن في نهاية المطاف إن "وادي فوكين" عادوا إلى القرية بعد حرب 1967 وأعادوا إعمارها. شعرت بأن موقفي يتضعضع، فقررت سحب قواتي الهجومية إلى القاطع الغربي ومعاودة الهجوم على جبهة تسمية "الباذنجان البتيري". كنا نتسامر والجيل الثالث من "بتير" يسمع ويضحك ويخزن حكايات وسهاداً للكلام. كنت أشعر بأننا نهدم الجدار البشع الذي ينتصب على حواف قرانا, ونعيد فرح الزغرودة ودق طبول الأعراس. كانت روح الحياة في تلك القرى وفي بيت لحم تشع دفئاً وتعبر أراضي وحدوداً وبحاراً وتقول نحن هنا. كنا نحرر فلسطين بفرح بريء في أمسية بريئة على شاطئ بريء. كان كل شيء يقول إن الدمعات المنثورة على جسر العودة, وعلى البحر المتوسط تحملنا إلى هنا أو هناك, تنسج فيما بينها ما هو أشبه بالأسطورة والملحمة الصغيرة. كنا في الابتدائي يا منى, وها نحن في الأربعينيات من أعمارنا. تعيش فينا قرانا ولم نعش فيها إلا لماماً. هي تجمعنا وتلاقينا هنا وهناك ونفرح بها: أماً لا تني تفيض دفئاً وحناناً وباذنجاناً "بتيرياً" كان أم "وادياً".