حديث بدأ بالديمقراطية وانتهى بنظرة فيها من التشاؤم أكثر من التفاؤل، كان حديث أستاذي الدكتور جمال سند السويدي مدير مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية حديثاً في السياسة، في الهم الوطني، حديثاً نسج فيه رؤى سياسية واقعية، تكلم عن المسكوت عنه ودخل في مناطق ملغومة. نتطرق في هذا المقال لبعض ما قيل في الحوار مركِّزين على قضايا الداخل المحلي، الهم الوطني بلافتاته العريضة من تجربة وليدة فريدة في انتخابات المجلس الوطني الاتحادي، إلى قضايا شائكة في علاقة مأزومة بين الدين والسياسة، إلى تركيبة سكانية وأزمة هوية، سنسلِّط الضوء على قضايا الداخل التي تناولها الحوار. عندما تحدث عن تجربة الانتخابات الجزئية للمجلس الوطني في دولة الإمارات تحدث وهو العارف بمفردات الديمقراطية الغربية قائلاً إن تجربة دولة الإمارات أظهرت "ردة واضحة إلى القبلية"، فكيف نجادل في صحة هذه المقولة وكل من راقب الاستقطابات التي شهدتها ساحة الانتخابات بين المرشحين والناخبين يجدها تصب في هذا الإطار؟ ليس رفضاً للديمقراطية الغربية بالتأكيد فهي أفضل التجارب السياسية التي ابتكرتها البشرية حتى الآن لنزع بذور التسلط من المجتمعات من ناحية، ولتعزيز مفاهيم المشاركة والمحاسبة وغيرها من مفردات تشكل في مجملها الديمقراطية بمفهومها الغربي، فعندما قال بأن "توسيع المشاركة في العملية الانتخابية فإنها ربما تصبح أكثر قبلية مما قد يعني إعادة الإمارات 50 عاماً إلى الوراء"، هو حديث عن أزمة مواطنة بالأساس وانتماء. ففي مجتمع لازالت فيه الأشكال الأولية للانتماءات تستوطن تضاريسه، مجتمع أبوي في الأساس، وتفكيك الأطر التقليدية للمرجعيات وأولها مرجعية القبيلة والطائفة، لازال أمامنا طريق طويل من التنمية الاجتماعية الهادفة إلى صهر المواطنين في بوتقة الانتماء للوطن لا غير. ومن إشكالية الديمقراطية الغربية إلى إشكالية التيارات الإسلامية في المجتمعات العربية، فمن سلطوية السلطة إلى شمولية التيارات الإسلامية، فتحدث الدكتور جمال بالتحديد عن "الإخوان المسلمين" كجماعة تتعاطف معها، وإن كانت لا تنتمي إليها، حتى فئات كثيرة من المجتمعات العربية، تطرح إشكالية العلاقة بين السياسة والدين. "لا يمكن مواجهة الخلل السكاني ومن يقول إن هناك حلاً للمشكلة واهم"، مقولة أثارت استياء الكثيرين، مقولة مؤلمة في تشخيصها للواقع، فلا حلول سحرية لإشكالية مستعصية ولا حلول دراماتيكية تستطيع أن تنتشل مجتمع الإمارات من أن يغرق وسط أمواج بشرية من كل جنس ولون ولسان، واقع نعيشه كل يوم ويجب أن نتعايش معه صحيح لكنّ تعايشاً ايجابياً، بمعنى استيعابه والعمل على إيجاد حلول مجتمعية وحكومية بالدرجة الأولى، فلتتباطأ عجلة النمو الاقتصادي ولن أقول التنمية الاقتصادية، لتجمد الدولة أنشطة الشركات العقارية التي تمتلكها جزئياً أو كلياً، لنؤجل الحلم قليلاً حتى لا ينقلب إلى كابوس، فالمعادلة أوضح ما يكون، المزيد من المشاريع لا يعني إلا عمالة وافدة تبني هذه المنشآت التي استقطبت وستستقطب المزيد والمزيد من النازحين من الجهات الأربع إلى دولة الإمارات، والنتيجة المزيد من الخلل السكاني. لابد من خطوات للمحافظة على طابع دولتنا كدولة عربية إسلامية، خطوات تبدؤها الدولة بتعديل قوانين الجنسية في الدولة لصالح أبناء الدول العربية ممن قضوا سنوات وسنوات على أرض الإمارات، شروط تراعي الفترات الزمنية والكفاءات العلمية. شروط تلبي حاجتنا للكم بشرط عدم الإخلال بالكيف. حلول جزئية لكنها مع الوقت ستساهم في رفع نسبة الـ10% ولو جزئياً. لا أفهم التعايش على أنه انكفاء على الداخل فللتعايش معانٍ إيجابية. قد نستطيع التعايش مع الأغلبية الأجنبية التي تعيش معنا في بلدنا كما قال الدكتور جمال، لكن هل يصح التساؤل معكوساً؟ "من نحن؟" سؤال في الهوية الإماراتية في زحمة الاغتراب المجتمعي، سؤال شائك لكنه قدري خاصة للأجيال الناشئة، في ظل الانهزامات العربية وسيطرة النموذج الغربي. التعليم رافد من روافد رسم الهوية لكنه جزء تحدث فيه الدكتور جمال مركزاً على دور المدرسة في تعزيز الهوية الوطنية، لكن وكما أسلفنا تتداخل عوامل عدة في تأسيس الهوية الوطنية، وإن كانت الأجيال السابقة تصوغها التربية المدرسية فإن الأجيال الحالية تسيطر عليها وسائل الإعلام، فمسابقات "اليولة" على سبيل المثال صورة من صور تعزيز الهوية اتفقنا مع مضمونها أم اختلفنا، وأقولها تفاؤلاً إن مجتمع الإمارات لم يقع في إشكالية أزمة الهوية حتى الآن، فلازلنا بخير. صحيح أن "شر البلية ما يضحك"، فالدولة الريعية أصبحت وفجأة دولة كوبونات غذائية للمواطنين، في مقابل ارتفاع جنوني للأسعار، أما أسعار العقارات فحدث ولا حرج. المواطن مدين من المهد إلى اللحد، نريد اقتصاد السوق ولكن بمقاييسنا، اقتصاداً رأسمالياً وسيطرة حكومية أو عائلية على الشركات الكبرى. احتكار في اقتصاد رأسمالي مفترض، نخلق العرض ثم نبحث عن الطلب، فبيوت الأحلام وشقق الجنان تنتظر مالكيها، ولازالت المشاريع تترى، فكيف تستقيم المعادلة؟ لقد قتلنا آدم سميث للمرة الثانية في دولة الإمارات، حسب تعبير بليغ للدكتور جمال. نحن ملكيون أكثر من الملك، صحافة التلميع والتصفيق لم تخرج من فراغ، فالواقع المعيش صنع من بعضهم نجوماً للإعلام، بينما غيَّب النسيان آخرين، فللناس ذاكرة قصيرة انتقائية. إعلامياً لا أحد يريد التجريب لمعرفة سقف الحرية، فمصارعة طواحين الهواء ليست من البطولة في شيء. نحن نتغذى من ثقافة متناقضة تعزز الأمن والسلامة الشخصية وتؤكد في ذات الوقت على أن الساكت عن الحق شيطان أخرس. فمن يريد أن يكون الخصم حكماً؟ فقانون المطبوعات لازال سارياً، وحساسية النقد مرض مستفحل في مؤسساتنا. ثقافة الاختلاف لم تجد لها تربة في ثقافتنا العربية للأسف، وبعد سنوات وسنوات لازلنا في بداية الطريق. لكن يا أستاذي كيف نتحدث عن حرية التعبير واختلاف الآراء وأهل الصحافة في جمعيتهم لازالوا تتجاذب "الحرية" بينهم؟ لم يكن مقالنا هذا بحثاً فيما بين السطور، بل مجرد محاولة لإلقاء نظرة متأنية لآراء من الأهمية ألا تمر مرور الكرام، وليعذرني إن حملت بعض مفرداته أكثر مما تحتمل. الهم واحد والوطن واحد... فتحية لأستاذي.