في أوكرانيا، يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه... فهي تمر اليوم بأزمة تحمل كثيراً من ملامح الزلزال الذي هزها قبل نحو عامين وقلب أحوالها السياسية رأساً على عقب، وسمي في حينه "الثورة البرتقالية"! الآن أيضاً تشهد أوكرانيا حالة انقسام حاد بين رئيسها فيكتور يوشينكو مدعوماً بمؤسسة الجيش، وبين رئيس الحكومة فيكتور يانوكوفيتش الذي يحظى بتأييد البرلمان. وقد بلغت الأزمة الأوكرانية ذروتها مع المرسوم الذي أصدره يوشينكو يوم الاثنين الماضي والقاضي بحل البرلمان، والدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة الشهر المقبل. ثم تدحرجت الأزمة خطوة أخرى نحو نقطة اللاعودة، حين هدد الرئيس بمقاضاة كل من لا يلتزم بمرسومه. وفي مقابل ذلك تقدم يانوكوفيتش بشكوى إلى المحكمة الدستورية لإبطال المرسوم الرئاسي، كما رفض طلباً من الرئيس باعتماد ميزانية لتنظيم الانتخابات المبكرة، ودعا إلى وساطة دولية لحل الأزمة وتفادي مزيد من التصعيد. وفي اليوم التالي لإعلان يوشينكو حل البرلمان، تدفق آلاف من مؤيدي رئيس الوزراء إلى قلب العاصمة كييف، احتجاجاً على مرسوم الرئيس، مهددين بمحاصرة مقر إقامته في ضواحي المدينة. وفي اليوم ذاته نظم مؤيدو يوشينكو مسيرة مضادة... في مشهد أعاد إلى الأذهان أحداث "الثورة البرتقالية" التي كان بطلها الأول يوشينكو نفسه. وكانت تلك الأحداث على صلة مباشرة بالصراع المحموم بين يانوكوفيتش ويوشينكو، حين تنافسا خلال الدور الثاني من انتخابات الرئاسة في نوفمبر 2004، وجاءت النتيجة لصالح يانوكوفيتش، فرفضها يوشينكو مرشح المعارضة، متهماً السلطة بممارسة التزوير لصالح منافسه. ثم دعا أنصاره إلى الاحتجاج والعصيان المدني، للمطالبة بإلغاء الانتخابات وإعادة تنظيمها مجدداً. وبعد أن رابط مئات الآلاف من الأوكرانيين في الساحات العامة وحول البرلمان ومحيط القصر الرئاسي، لأكثر من ثلاثة أسابيع، اضطرت السلطات، تحت ضغوط غربية قوية أيضاً، إلى إعادة الانتخابات مطلع عام 2005 حيث فاز بها يوشينكو. وقد أخذت الأحداث اسمها من اللون الذي اتفق قادتها على ارتدائه، من الجوارب وحتى ربطة العنق... أي اللون البرتقالي. وفي الـ23 يناير 2005 أدى يوشينكو اليمين رئيساً لأوكرانيا، كتتويج للثورة التي ألهمت كثيراً من قوى المعارضة السياسية عبر العالم! ولد يوشينكو عام 1959 في ولاية "سومي" بالشمال الشرقي الأوكراني، لأبوين معلمين، ودرَس الاقتصاد ثم عمل في القطاع المصرفي، وأصبح حاكماً للبنك المركزي الأوكراني بين عامي 1993 و1999. وبفضل نجاحاته عين من طرف الرئيس ليونيد كوتشما رئيساً للحكومة نهاية عام 1999، واستطاع خلال 15 شهراً تحريك الاقتصاد الأوكراني نحو معدلات نمو قياسية. ودُفعت خلال رئاسته للحكومة متأخرات أجور الموظفين ومستحقات التقاعد، مما جعله أكثر السياسيين شعبية في أوكرانيا. لكن إصلاحاته الاقتصادية لقيت معارضة من الأوليغارشية المحيطة بالرئيس كوتشما الذي عزله في إبريل 2001، لينتقل إلى صف المعارضة، حيث أسس حزب "أوكرانيا لنا" (وسط اليمين) الذي حل كأكبر قوة سياسية في البلاد خلال الانتخابات التشريعية عام 2002. وتحالف يوشينكو مع التكتل البرلماني المعارض بقيادة السياسية البارزة "يوليا توموشينكو"، ليشكلا ائتلافاً كبيراً من الليبراليين والوطنيين، تركزت مطالبه على محاربة الفساد وإطلاق الحريات... وكان الركيزة الأساسية للثورة البرتقالية! وقبيل انتخابات الرئاسة عام 2004، مر يوشينكو بظروف صحية عصيبة، نقل على إثرها لتلقي العلاج في فيينا، وقد اتهم نظام كوتشما بمحاولة تسميمه لمنعه من خوض الانتخابات. وبعد أن شُفي وعاد إلى الظهور، بدا على وجهه ما يشبه آثار الجدري، مما جلب له تعاطفاً في أوساط الأوكرانيين الذين التفت غالبيتهم حول "الثورة البرتقالية". هكذا صعد يوشينكو إلى سدة الرئاسة مجللاً بحماس أنصاره وبتأييد شعبي لم ينله قبله زعيم في أوكرانيا. لكن بعد أقل من عام على ذلك الصعود التاريخي، اختلف يوشينكو مع حليفته ورئيسة وزرائه القوية (توموشينكو) فأقالها، وبدأت التصدعات تشق تحالفه البرلماني. وخلال الانتخابات النيابية في أغسطس الماضي، جاء حزبه في المرتبة الرابعة، بينما احتل المرتبة الأولى "حزب الأقاليم" برئاسة غريمه التقليدي يانوكوفيتش، ليشكلا ائتلافاً حكومياً بموجب برنامج توافقي بدا في حينه قابلاً للتطبيق والاستمرار، لكن سرعان ما دبت التناقضات بينهما، مستعيدين معظم الاتهامات والاتهامات المضادة أثناء "الثورة البرتقالية"! في هذا السياق اندلعت الأزمة السياسية الأوكرانية الراهنة، حين غير 11 نائباً برلمانياً من الموالين للرئيس، ولاءهم وانضموا إلى الأغلبية الحكومية أواسط الشهر المنصرم، ما جعل كتلة يوشينكو في البرلمان أقلية نيابية صغيرة جداً، فبرر الرئيس قراره حل البرلمان قائلاً إن يانوكوفيتش يخرق الدستور من خلال الاستيلاء على السلطة بشكل غير شرعي، عبر إغراء برلمانيين من حزب الرئيس بالانشقاق عليه! ولا يبدو اليوم أن مشكلة "الثورة البرتقالية"، بعد أزيد من عامين على نشوبها، تكمن فقط في إنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية المحدودة، أو في عجزها عن تأمين التلاحم بين قواها الداخلية... وإنما تتعلق أيضاً بهوية أوكرانيا وخياراتها الخارجية! فهذه الجمهورية السوفييتية السابقة، منقسمة على نفسها بين من يطالبون بعلاقات استراتيجية مع روسيا (ويمثلهم يانوكوفيتش)، وبين من يعتبرون أن أوكرانيا تجد عمقها الحقيقي ومستقبلها الواعد في أوروبا وحلف "الناتو"، أي الأطراف الدولية التي كانت سنداً لـ"الثورة البرتقالية" بقيادة يوشينكو. أما الوجه الآخر لإشكالية الهوية، فمرده أن 23% من سكان أوكرانيا (البالغ عددهم 49 مليون نسمة) هم من الروس، كما أن الأقاليم الشرقية تتحدث اللغة الروسية التي يناهضها القوميون والليبراليون لصالح الأوكرانية. ومن هنا فإن انهيار صيغة التعايش بين يانوكوفيتش ويوشينكو الذي تضاءلت شعبيته كثيراً خلال عامين من الحكم، بين "الثورة البرتقالية" والثورة المضادة، بين أقطاب الثورة البرتقالية نفسها... يحمل في طياته إشارة مهمة إلى صعوبة التساكن بين خيارين خارجيين ومفهومين للهوية في أوكرانيا... أي ما يعد عاملاً أساسيا في المصير البائس الذي آلت إليه الثورة البرتقالية، وقد بدأت تأكل أبناءها وتستحيل رمادية بمعنى ما! محمد ولد المنى