لقد كان ذلك النزاع، شبيهاً بآلاف النزاعات المحلية التي حدثت من قبل، في هذا الجزء الصحراوي من غرب السودان. فقد اعتدى شاب من قبيلة "الحوطية" شبه البدوية التي تعمل برعي الأبقار، على صبية من قبيلة "الأبالة" العربية، التي اتخذت اسمها من رعي وتربية "الإبل". ومثلما هو متوقع في مثل هذه الحالات عادة، فلابد من إقامة العدل ورد المظالم على طريقة أهالي المنطقة. وقد حدث ذلك بالفعل، استناداً إلى التقاليد القبلية السائدة منذ عدة قرون في تسوية مثل هذه النزاعات، فقد اجتمع شيوخ وزعماء كلتا القبيلتين، واتفقوا على مبلغ مستحق على قبيلة "الحوطية" تعويضاً عما لحق بقبيلة "الأبالة"، وفقاً لما ذكره أهالي قرى قبيلة "الحوطية". ووفق ما قال الشيخ محمدين آدم عبدالله، زعيم قبيلة "الحوطية"، فلم تكن تلك الحادثة التي وقعت قبل عامين، سوى احتكاك بسيط بيننا وبين "الأبالة". غير أن الذي حدث بعد ذلك، إنما يقدم مثالاً حياً وملموساً على الكيفية التي نسفت بها الحرب التي شهدها الإقليم على امتداد الأربع سنوات الماضية، تلك التقاليد الاجتماعية الراسخة، التي طالما اعتمد عليها الأهالي في تسوية خلافاتهم ونزاعاتهم، وتنظيم مجتمعهم المحلي، على طريقتهم الخاصة، على امتداد الحقب والقرون. والجدير بالملاحظة هنا، أن "الزرقة" ليست هي الضحية الوحيدة لهذه الحرب كما ساد الاعتقاد، وإنما تشمل كذلك مجموعات صغيرة من القبائل البدوية الرعوية ذات الأصول العربية، التي طالما نسبت إليها حملات العنف الموجه ضد "الزرقة" أو المجموعات الأفريقية في الإقليم. وللحقيقة، فقد تمكنت الحكومة المركزية في الخرطوم من استقطاب بعض "الأبالة" وتسليحهم ثم تحويلهم إلى مليشيات عسكرية، عرفت باسم "الجنجويد". وتمكنت قبائل "الحوطية" من تسديد نصف قيمة التعويض المستحق عليها لقبيلة "الأبالة"، إلا أن مليشيات "الجنجويد" سارعت إلى شن هجوم عليها، من على ظهور الجمال والشاحنات، وقد استخدمت فيه الأسلحة والبنادق بكافة أنواعها وأشكالها، حسب إفادة الشيخ محمدين عبدالله، الذي استطرد قائلاً: "لقد ساعدتهم الحكومة، وقد رأيناهم وهم يطلقون النار من بنادق وأسلحة حكومية، إضافة إلى أنهم كانوا يحملون بطاقات هوية حكومية. وقد عرفنا ذلك من الأفراد الذين قتلناهم منهم، عندما وقفنا أمامهم ودافعنا عن أنفسنا أمام هجماتهم". والحقيقة أيضاً أن غالبية ما يقدر بنحو 45 ألف قتيل، ومليونين ونصف المليون من الذين شردتهم الحرب منذ اندلاعها في عام 2003، هي من مجموعات "الزرقة" المنتمية للأصل الأفريقي التي تعمل بحرفة الزراعة. وكانت مليشيات الجنجويد –المدعومة حكومياً- قد شنت حملات عنف شعواء عليها، في إطار مسعى حكومي لإخماد نيران التمرد في الإقليم. غير أن هذا لا ينفي تأثر بعض القبائل البدوية العربية نفسها، وهي مجموعات غير موالية للحكومة ولا علاقة لها بـ"الجنجويد". والغريب أن جهود الإغاثة الإنسانية الدولية، قد واصلت تجاهلها لهذه المجموعات حتى إلى وقت قريب، كما لو كانت محسوبة على "الجنجويد"، دون ذنب أو جريرة ارتكبتها! وبفعل تأثير واستمرار النزاع، فقد تقطعت سبل الهجرة الرعوية الداخلية، التي كثيراً ما كانت هي نفسها، مصدراً للنزاعات القبلية. وبسبب تلك الحرب، فقد تأثرت سلباً تجارة الجمال المربحة، المتبادلة بين كل من السودان ومصر وليبيا وتشاد، فانخفضت بسببها أسعار الجمال إلى نصف ما كانت عليه قبل عام واحد من الآن. ومثلما حدث في النزاع المذكور أعلاه بين "الأبالة" و"الحوطية"، فقد تصاعد النزاع واكتسب أبعاداً مغايرة لطبيعة الخلافات القبلية التقليدية، نتيجة لتسليح الحكومة ودعمها لطرف واحد من أطراف النزاع، على حساب الأطراف الأخرى. والدافع هذه المرة ليس تقليدياً ولا قبلياً، وإنما هو سياسي بالدرجة الأولى، استهدفت من خلاله الحكومة تصفية التمرد في الإقليم. وعلى حد قول أحد مسؤولي الأمم المتحدة –فضل عدم ذكر اسمه لحساسية موقعه والقضية التي يتحدث عنها- "فإنه ما أسهل تصوير النزاع، وكأن قبائل "الزرقة" هي الضحية، بينما كافة القبائل العربية في الإقليم، هي المعتدية. ولكن الحقيقة أن هناك مجموعات عربية تعاني، وما أكثر هذه المجموعات التي هي ليست بالحكومية ولا مع حركة التمرد.. بل هي ليست مع أي شيء البتة. وللأسف فهذه هي الشريحة المهمشة في النزاع". وعلى الرغم أن القبائل البدوية تميل إلى نسبة نفسها للقبائل العربية، بينما تميل القبائل الزراعية إلى الأفريقانية، إلا أن المجموعتين قد تزاوجتا وارتبطتا ببعضهما بعضاً عبر القرون، حتى لم يعد ممكناً التمييز بينهما. ومهما يكن، فإن التقديرات تشير إلى أن نصف سكان إقليم دارفور هم من القبائل البدوية العربية، التي تجوب بماشيتها الإقليم بحثاً عن المرعى والمياه من موسم لآخر، عبر الأراضي الصحراوية الشاسعة الممتدة هناك. وبين عشرات هذه المجموعات البدوية وشبه البدوية، تعايشت قبائل "الحوطية" و"الأبالة" مع بعضها بعضاً، في نمط حياة مترع بالنزاعات، ذات الطابع الشخصي في بعض الأحيان، والسياسي في أحيان أخرى، إلا أن الغالب فيها هو التنازع من أجل موارد المياه والكلأ. ومما زاد هذه النزاعات التقليدية سوءاً، موجة الجفاف التي ضربت الإقليم في عقد الثمانينيات. أما انحياز الحكومة المركزية ودعمها للقبائل العربية على حساب المجموعات الأفريقية أو قبائل "الزرقة"، فقد زاد التوترات حدة، خاصة وأن الخرطوم تتهم المجموعات الأخيرة هذه، بدعم التمرد في الإقليم. ومهما يكن، فإن هجوم قبائل "الأبالة" على جيرانهم "الحوطية" لم تكن وراءه دوافع سياسية، بقدر ما هو انعكاس لانتشار الأسلحة، إضافة إلى كونه تعبيراً عن الحصانة التي وفرتها حكومة الخرطوم للمليشيات المسلحة من قبلها، مكافأة لها على الخدمات التي تقدمها لحكومة الخرطوم محلياً. ــــــــــــــــــــــ مراسلة صحيفة "واشنطن بوست" في زالنجي - دارفور ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"