واحدة من أفضل الإيجابيات، التي شهدها معرض أبوظبي الدولي للكتاب هي: مكرمة الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بدعم مشتريات طلاب المدارس والجامعات بما قيمته ثلاثة ملايين درهم. وأحد التأثيرات العاجلة لهذه المكرمة أن هناك إمكانية للانطلاق منها، نحو خطة وطنية شاملة لنشر "ثقافة القراءة" وغرس هذه القيمة الجميلة في نفوس النشء. بالنسبة لي، المكرمة هي أول الغيث، بل هي خطوة حقيقية لمشروع مجتمعي يمكن أن تتبناه إحدى الجهات والهيئات المعنية بالثقافة بحيث يكون هدف المشروع دعم الكتاب في المقام الأول وبعدها يمتد ليشمل دعم بقية الفنون وفروع الثقافة المتصلة بالتكوين الفكري للأطفال والشباب. لمدة أسبوع كامل، صنع معرض أبوظبي للكتاب، حراكاً ثقافياً، بدا للمتأمل فيه، ذلك الفرق بين أيام هذا الأسبوع وباقي الأيام الأخرى، كما لو أنه لم يحدث مثل هذا "الحراك الثقافي" من قبل، فأبوظبي كانت وجهة المثقفين والمهتمين بالثقافة والناس العاديين أيضاً، من داخل الإمارات وخارجها. وربما النقطة المهمة في هذا المعرض، أنه تميز بالعفوية أكثر مما لاقاه من الاهتمام الرسمي، برغم تواجد هذا الاهتمام -الرسمي- وأهميته. ليس هناك أجمل من مشاهدة الناس، وهي تسعى لاقتناء الكتاب، بغض النظر عما إن كانت قرأته أو لم تقرأه؛ فظاهرة شراء الكتب هي بحد ذاتها حدث نادر؛ فما بالك بالقراءة. ولدى زياراتي المتكررة لمعرض أبوظبي للكتاب، لاحظت شغفاً لدى الكثيرين للقراءة خاصة إذا كان موضوع الكتاب يهمهم، بل ويستمتع هؤلاء بمثل هذه الأجواء، والدليل، ما رأيناه، حتى الساعات الأخيرة للمعرض حيث الازدحام من أجل التواصل مع الكتاب، مع أن الناشرين كانوا يستعدون للمغادرة. لقد كان مشهد الطلاب، بمختلف أعمارهم، وهم يسعون لشراء الكتب، مستفيدين من مكرمة الشيخ محمد بن زايد بهيجاً. ولذا فقد كانت هذه المكرمة فعلاً معنوياً جميلاً، فقد ذكرتنا بمكرمة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في العام 1981 عندما اشترى كل كتب المعرض تشجيعاً للناشرين. دعم الشيخ محمد بن زايد، جاء ليؤكد نقطة مهمة وهي: حاجة المجتمع لتبني دعم المشاريع الثقافية بالدولة، على منوال العديد من التجارب الناجحة في العديد من دول العالم. هناك محاولات وتجارب جيدة في مجتمعنا، مثل الصالونات الخاصة، وأروقة معرفة، ومكتبات لشخصيات مجتمعية، يتبناها البعض ولكننا نتحدث هنا، عن الفعل "الثقافي الشعبي" في عموم الإمارات، فهذا المفهوم لدعم القراءة لا زال يحتاج إلى جهد كبير وعمل طويل عندنا، أو هكذا أعتقد..! ما نبحث عنه بعد مكرمة الشيخ محمد بن زايد، احتضان تلك الفكرة من المؤسسات ذات العلاقة بنشر الثقافة، ومشاريع دعم القراءة من خلال صندوق وطني؛ لأن مثل هذه الجهات هي الأقدر على نشر القراءة بين الجمهور وفي الأحياء السكنية بدلاً من تركزها في أماكن معينة تعطي انطباعاً رسمياً، أكثر مما تخلقه تلك المكتبات الشعبية، أو النسخ الشعبية للكتاب. كثير من الأحياء الشعبية بالدولة تفتقر إلى المكتبات العامة كما أن أسعار الكتب، ليست في متناول الكثيرين، وهذا أحد الأسباب في عدم إقبال البعض على شراء الكتب. قدر المثقفين، في العالم كله، أن يكونوا غير مقتدرين مادياً، ومهما قام المثقف بشراء الكتب، فهي لا تشبع نهمه للقراءة وامتلاكه للكتاب، لذا فإنني أرى، أنه يمكن الاستفادة من تلك المكرمة باعتبارها تجربة رائدة، بحيث تكون نواة لمشروع وطني يستهدف طباعة "نسخة شعبية" بسعر رمزي للكتب، خاصة منها ذات القيمة النوعية والعمق المعرفي، وبحيث يتواصل المشروع على مدار العام وتشكل له لجنة متخصصة لاختيار الكتب والإشراف عليها، توزيعاً وطباعة. التأثير الثقافي الناتج من أيام معرض أبوظبي للكتاب يدفعنا، أن نبحث في كيفية "النزول" بالفعل الثقافي إلى أوسع دائرة ممكنة من الجمهور وإزالة أي عائق مادي أو مكاني أو غير ذلك لتشجيع القراءة ونشر المعرفة وبناء مكتبات في الأحياء البعيدة عن مراكز المدن والمناطق النائية لتغطية جميع مناطق الدولة جغرافياً.