يذكر جاك بيرك في كتابه "عندما تغير العالم" أن الكاهن "ميرسين"، كان يعقد في ضواحي باريس، في منتصف القرن السابع عشر، جلستين أسبوعيتين لأهم الأدمغة في أوروبا. وفي إحدى هذه الجلسات لمع في ذهن "رينيه ديكارت" مخطط الهندسة التحليلية، من خلف طنين ذبابة، أراد أن يحدد إحداثياتها، والآن أصبحت علماً يدرسه كل طالب في الرياضيات. وحسب "برتراند راسل" الفيلسوف البريطاني في كتابه "النظرة العلمية" فإن كل النهضة الأوروبية تدين لمئة دماغ، ولو صفيت وقضي عليها، لم يكن هناك نهضة ولا ناهضون؟ واليوم تخضع كل أوروبا لتيار عارم، بزخم لا يكف عن الاتساع، من فكر الحداثة والتنوير. مع وجود بؤر تخلف وخرافيين هنا وهناك، ولكن التيار العقلي من الحداثة هو الذي يمسك بمفاصل المجتمع ويقوده. وهو أمر شعرت به أثناء مكوثي الطويل في ألمانيا حين واجهنا الفرق بين العقيدة الظنية والعلم اليقيني. مع هذا فلا الأولى ظن، ولا يقين ولا حتمية ولا موضوعية في العلم، حسب نظرية (الارتياب) عند "فيرنر هايزنبرغ"؛ بل قوانين (احتمالية) كما صاغها "جاوس" من جامعة "جوتنجن"، خاصة في علم الاجتماع. ولولا هذا التيار؛ لبقيت أوروبا في قبضة الكثلكة والإقطاع، تبيع فيه الكنيسة تذاكر في "صالونات الجنة" للأغنياء، ولما انفجر تيار الإصلاح الديني، ولبقيت تعسُّ في ظلمات القرون الوسطى، وبقيت تعالج السعال الديكي بلبن الحمير، ويضحك (البابا) من سخف من يقول بكروية الأرض، كيف لا تسقط الأشجار من تحت، ويعالج الإفرنجي الرهيب بجلد الذات في البراري، واستعطاف المريخ أن يعدل مزاجه، كما فعل البابا "ألكسندر السادس"؟! ومعنى ما مر أن النهضة تبدأ من الفكر، وهو منهج القرآن أن (تغيير النفوس) هو الذي يقلب الواقع، وفي قناعتي أن هناك ثلاثة تحديات؛ أعلى من سد يأجوج ومأجوج، في وجه المسلمين، ما لم ينقب في هذا الجدار نقباً؛ فيكون دكاً. أولاً: شق الطريق للفكر النقدي على حساب النقلي، تأسيساً منهجياً، وربطه بالدماغ الإسلامي العام في الشارع والجوامع والجامعة. لأن من يستولي على المساجد والجامع والجامعة، ومؤتمرات تضم عشرات الآلاف في أميركا وكندا وأوروبا، هم أئمة التيار النقلي، مع الحرص المؤكد في كل مرة، على نقاوة الجو من أئمة العقل النقدي، من المشاغبين من مقلقي النوم العام. ثانياً: ومن أهم أولويات تعميق العقل النقدي، تناول مشكلة العنف وفكها عن فكرة "الجهاد" الإسلامي، التي هي بوجه آخر إحياء للخوارج من قبورهم، وإحياء مذهبهم كما في حادثة الردادي وأمثاله في المدينة المنورة، الذين قتلوا عائلة فرنسية، في فبراير 2007. وهي قصة قديمة في التنظيمات الإسلامية كتبتها بشكل مبكر منذ عام 1982 في كتابي "النقد الذاتي"، الذي أعيدت طباعته، كما تعاد طباعة كتاب "طبائع الاستبداد" للكواكبي، والاستبداد يزداد استفحالاً.. والأصولية النقلية تزداد ضراوة وتعمقاً، دليلاً على مدى ملوحة التربة ثالثاً: ربط العقل الإسلامي بالمعاصرة، فما لم نعرف: أين نحن؟ لن نعرف: إلى أين نتوجه؟ وما لم نقم بالمغامرة العقلية، فلن نعبر محطات التطور العقلي في القرون الخمسة الأخيرة، لأن العالم العربي لم يتطور منذ ابن خلدون، فهو على قارعة الطريق الحضارية، وهو مصدوم عاجز عن فهم عالم (عبقر) لم يشارك في صناعته. وهذا الربط يجب أن يتم بدون أن يخسر دينه، لأن جماعة الحداثة من (أدونيس وآركون وأبو زيد)، يريدون استئصال ثألولة من الأنف، بالمنشار وبدون تخدير، كما كانت تجرى العمليات أيام القراصنة. وجماعة الحداثة يريدون جعل العربي أوروبياً، وهو مستحيل حتى بعمليات الاستنساخ؟ مقابل من أراد من الجهة الإسلامية فرض التاريخ عليها... وهي عملية أكثر من كونها تلفيقية وتوفيقية، أو وضع مصطلحات ضعيفة عرجاء مثل أسلمة المعرفة، في مواجهة نصرنة المعرفة. وهي سخف ما بعده سخف؟