نحن نحمِّل القمم العربية أكثر مما تستطيع حمله، فلنعترف بذلك ولنولّ وجوهنا شطر المفيد. لنذكر أمثلة توضّح الأمر الذي نحن بصدده. المثال الأول يتعلق بالعراق. فعندما تتحدث القمة عن احتلال أميركي غير مشروع وعن أهمية وحدة العراق وعروبته وضرورة التحاور بين كل مكوناته فإنها قد تزعج المحتلين وقد تضايق بعض القوى العراقية السعيدة بالاحتلال، ولكن لو أن القمّة كانت تحدثت عن حق المقاومة العراقية في تحرير وطنها فإنها في هذه الحالة تدخل في مواجهة حقيقية مع المحتل لها تبعاتها الكبيرة. المثال الثاني يتعلق بفلسطين. فالحديث عن استعادة الأراضي المحتلة عام 67 وقيام دولة فلسطينية على كامل الضفة الغربية شيء يزعج أميركا والسلطات الصهيونية، لكن الحديث عن الرفض التام، ودون أية غمغمة، لأي تنازل عن حقّ عودة اللاجئين إلى أرضهم شيء يدخل القمة في مواجهة مع تينك الجهتين. وينطبق الأمر على الموقف من موضوع الطاقة النووية، فالحديث يقتصر على المطالبة بأن تكون منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل ولكنه لم ينتقل قط بالقول بالفم الملآن إن العرب والمسلمين لن يتوقفوا عن محاولة امتلاك السلاح الذري وغيره إلا إذا جُرِّدت "إسرائيل" من ذلك السلاح. ليس المطلوب استعمال أساليب المماحكة والتهديدات الفارغة. ولكن المطلوب هو أن يعرف العالم أين تقف، وتعرف شعوبك إلى أين تريد أن تقودها، ويعرف أعداؤك الخطوط الحمراء التي لن تسمح بتخطيها. غير أن القمم العربية لا تستطيع في وضعها الحالي أن تفعل ذلك. فتجاذباتها الداخلية وتفاعل بعضها مع القوى الخارجية يجعلان من المستحيل على القمم العربية أن تصدر قرارات متكاملة متناغمة. وطبيعة وآليات وإمكانيات وأجهزة الفعل والمواجهة ستحدُّ من اتخاذ القرارات التي ينتظرها الناس، ففاقد الشيء لا يعطيه. إذن ما الحل لهذه المعضلة؟ الخطوة الأولى المتواضعة في هذا الحلّ هي أن تقول الشعوب ما لا تستطيع الأنظمة السياسية الحاكمة قوله في الوقت الحاضر. ومن هنا فإن الاقتراح المتداول بين مختلف قوى المجتمع المدني العربي بتشكيل جامعة عربية للشعوب العربية (جامعة الشعوب العربية) هو اقتراح معقول ويستحق النظر فيه بجديّة. وهو اقتراح منسجم مع، ومكمّل لاقتراحات سابقة بشأن تكوين جبهة نضال شعبية عربية، أو بشأن تكوين كتلة تاريخية شعبية قادرة على إيقاف نزيف الأمة الحالي وتدهورها وذلك من خلال العمل في الأرضية المشتركة، وهي كبيرة وممتدة، وترك المختلف عليه جانباً، بل وترحيله إلى ما بعد خروج الأمة من المرحلة الحرجة التي تعيشها الآن. التسمية ليست مهمّة، فالمهم هو المحتوى والبرامج وقدرة الأسنان على العضّ. قيمة هذه المؤسسة المقترحة هي في إسماع العالم وإسماع الأعداء مواقف الأمة الحقيقية التي لا تستطيع المؤسسة الرسمية العربية المشتركة أن تقولها للأسباب التي ذكرناها، وفي بلورة توجهات سياسية مشتركة لكل مكونات الأمة، وفي تفعيل الطاقات الشعبية التي طال أمد ركودها ونومها وفقدانها للأمل ووضوح الرؤية. إن ما نقوله لا ينفي بعض التحسُّن الذي طرأ على مؤتمر القمة الأخير في اتخاذ بعض القرارات. لكن قيام جامعة للشعوب العربية، مستقلة مالياً وإدارياً عن الجامعة العربية المقموعة المنهكة، سيضعف إلى حدٍّ معقول القبضة الأميركية- الصهيونية على رقبة الحراك السياسي العربي الرسمي، وهو ما أصبح ضرورة قومية للعرب وضرورة إسلامية للمسلمين. ينبغي ألا نتبنّى ما قاله أحد الفلاسفة التائهين من أن نفق الفكر الإنساني قد أصبح شديد الظلمة التي لا نهاية لها. دعونا نضيء شمعة في نفق ليل هذه الأمة.