كلما هبت علينا الأزمات والكوارث، تعود غالبية نُخَبنا إلى سؤال "الهوية العربية"، السؤال الذي أصابته الضبابية خلال ما يزيد على ألف عام من الزمن، ثم ازداد تشظياً وضياعاً في المئة عام الأخيرة، أي منذ مشاريع النهضة القومية العربية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتكرست ملامح التشظي والضياع مع تقسيمات "سايكس- بيكو"، ثم قيام الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، حيث تشرذمت الأمة. فغابت محددات الهوية العربية وبات سؤالها غريباً كما لو كان قادماً من عصور الظلام والتخلف. فمن يجرؤ اليوم على الحديث عن "العروبة" بوصفها هوية جامعة للأمة العربية؟! من هنا نعود اليوم إلى مفهوم الهوية بوصفه تفاعلاً بين مجموعة من العناصر والمحددات النظرية، من جهة، وبوصفه واقعاً متشظياً ومفتتاً وعديم الحضور والفاعلية، من جهة ثانية. فمن الجهة الأولى نبحث في عناصر تشكيل الهوية، فنجد أننا نتحدث عن العوامل المشتركة بين أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، أي عن اللغة والتاريخ والدين والمصالح... الخ. فهل ما تزال هذه العوامل فاعلة في العلاقة المشتركة بين العرب في أقطارهم؟ أم أن هناك اختلافات -تصل حد الخلافات في كثير من الأحيان- بين العرب تجاه هذه العوامل، كلها أو بعضها؟ هناك اختلافات كثيرة اليوم، لا نقول بين الشعوب العربية، بل بين ما تفرضه الأنظمة الحاكمة كل في بلده، وعلى أكثر من صعيد، وخصوصاً في ما يتعلق بالتاريخ والدين والمصالح. فمن ينظر اليوم في أقطار الوطن العربي (ودعونا نستخدم عبارة الوطن العربي مجازاً) لا يمكن أن يعتقد أن ثمة روابط مشتركة بين هذه الأقطار. ذلك كله مما يستوجب إعادة النظر في مكونات الهوية العربية، وما يميز هذه الهوية عن غيرها من "الهويات" في زمن العولمة خصوصاً، وفي هذا الزمن العربي الرديء على وجه التحديد. إن أبرز ما يظهر من هذه "الهوية" هو التناقضات الحادة بين "العوالم" التي تدعي الانتماء إلى العروبة وتحمل هويتها، خصوصاً حين تختلط العروبة بالإسلام، وتغدو الهوية العربية الإسلامية -بالمعنى الراهن، وليس بالمعنى الحضاري العريق- خليطاً من شظايا متنافرة ومتناقضة ومتصارعة. نصبح أمام أكثر من "إسلام" وأكثر من "عروبة". نصبح موزعين أدياناً وطوائف ومذاهب، ونتوزع بين اعتدال وتشدد، وتتوزع ارتباطاتنا بين شرق وغرب، وننقسم بين أنظمة وشعوب، وتقودنا أنظمة نحو التبعية فيما تدعي الديمقراطية والحرية والاستقلال، بينما تقودنا أنظمة أخرى في مواجهات دونكيشوتية لا نربح منها سوى المزيد من الهزائم والانهيارات. وما بين نمطين من الحكم، كلاهما ديكتاتوري وبغيض، أو هش وضعيف، تضيع بعض الشعوب العربية ومصالحها، بل تغيب القيم والمبادئ والأخلاق، ويعم الفساد، وتنقلب المعايير على رأسها، فيغدو الفاشل عصامياً ناجحاً، ويسمى القمع حفظاً للنظام والمجتمع، ويضحي تبديل اللون والاسم تجديداً وتحضراً. فلا نعود نعرف هل هذه القيم رأسمالية أم اشتراكية أم إسلامية، أم هي خليط مشوه من هذه وتلك؟ فمن نحن العرب في خضم هذه المعالم والملامح الشائهة وغير المحددة؟ وهل هذه هي ملامح هويتنا ومحددات عالمنا؟ ومن الذي يصنع كل هذه التشوهات التي تصنع ضعفنا وتعززه باستمرار؟ لا يجوز أن نلقي تبعات هذا التشوه على العدو، أو على العوامل الخارجية، التي تلعب دوراً بالتأكيد في هذا المجال، لأن هويتنا تظل من صنع وعينا وأيدينا وأفعالنا، وهي -بلا شك- تتأثر بكل ما يحيط بنا، لكن الخارج لا يستطيع أن يلعب بهوية قوية ورصينة ومحددة المعالم. والعدو الذي يجد هوية مشوهة ومتشظِّية يستغلها في خلق مزيد من التشويه والتفتيت. ولأن هويتنا تعاني كل تلك الأمراض التي أوردنا، فقد تمكن العدو من التسلل إلى الجسد العربي- الإسلامي وزرع سهامه في هذا الجسد ليستمر في النزيف حتى الموت.. أكان موتاً مادياً أم معنوياً، لا فرق. ثمة من ينفون دائمًا وجود خطر على الهوية العربية من الضياع، وتحديداً في مواجهة العولمة وعصر التكنولوجيا الرقمية، ونحن نؤكد على مثل هذا الخطر، ليس لأن العولمة قادرة على ابتلاع كل ما يقف في وجهها من "هويات" ذات خصوصية، فهذا أمر معروف، إذ أن أي قوة عظمى تسعى لابتلاع القوى الضعيفة، لكن الخطر هو في كوننا نتعرض للانهيار من الداخل، وبسبب عوامل ضعف داخلية في الغالب، وهو الأمر الذي نتعرض له منذ مئات السنين. فإذا كان وجود الهوية يمثل وجودنا المعنوي في العالم، فغيابها يمثل غيابنا المادي عن هذا العالم، وهو ما تتجلى بوادره في هزائمنا المتكررة على مدى قرون، بدءاً من الاستسلام للهوية العثمانية وحتى اليوم.