أوصى الرئيس الفلسطيني محمود عباس "بطباعة الخطاب التاريخي الذي ألقاه الملك عبدالله الثاني أمام الكونجرس الأميركي في كتيب، واعتباره من الوثائق المهمة والأساسية للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتوزيعه على كافة مؤسسات ودوائر السلطة الوطنية وأجهزتها المدنية والعسكرية، وعلى الجامعات والمدارس الفلسطينية وعلى المؤسسات والهيئات والمنظمات الأهلية، لتمكين كافة شرائح الشعب الفلسطيني من الاطلاع على الخطاب والاحتفاظ به تقديراً لأهميته". وفي الحقيقة، فإن خطاب العاهل الأردني يمثل وجهة نظر "جبهة الاعتدال العربي" حيال السياسات الأميركية في العالم العربي (وهي الجبهة المعول عليها للتأثير عربياً ودولياً في نطاق التسوية السلمية)، التي باتت واشنطن تدرك أنه لا غنى عنها لمساعدتها في التخليص من كوارثها والويلات التي جرتها على المنطقة، وجلبت السخط العارم على سياسات الولايات المتحدة. ومن بين أمور عديدة مهمة ركز عليها الملك: دعوته الملحة إلى "عملية سلمية تعطي نتائج هذا العام". ولقد جاء الخطاب ضمن الجهود العربية لإيجاد حلول لمشاكل المنطقة التي تزداد احتقاناً، حيث قدم العاهل الأردني أفكاراً تجاه إحلال السلام العالمي، معتبراً أن الأساس هو تحقيق السلام العادل للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة، واضعاً الولايات المتحدة أمام مسؤولياتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية باعتبارها الدولة صاحبة التأثير الأكبر (إيجاباً أو سلباً) على إسرائيل للالتزام بتحقيق السلام أو التنصل منه. ولقد أطنب مراقبون كثيرون في توضيح كون العاهل الأردني قدم رؤية مقنعة: فرغم أهمية العراق وما يجري على أراضيه، تبقى القضية الفلسطينية القضية الرئيسية التي تعكر أجواء الشرق الأوسط بأكمله، مؤكداً على أن "منبع الانقسام في المنطقة وسبب الاستياء والإحباط، هو التنكر للعدالة والسلام في فلسطين". وخلص إلى القول: "تلك هي القضية الرئيسية التي تولد عواقب قاسية لمنطقتنا ولعالمنا"، مكرراً إلحاحه على ضرورة إحلال السلام الآن ودون تأخير، بعد أن تناول محاور شخصت الواقع، وما سيؤول إليه من عواقب نتيجة تأخير إحلال السلام. ولكن لماذا الآن ودون تأخير؟! لقد أدرك الملك خطورة الحال الذي تعيشه المنطقة والتغيرات الجذرية الطارئة، فشدد في مخاطبته الكونجرس على أنه "لا شيء يمكن أن يؤكد الرؤية الأخلاقية الأميركية بوضوح، ولا شيء يمكن أن يلامس شباب العالم بشكل مباشر، أكثر من قيام قيادتكم لعملية سلمية تعطي نتائج ليس في العام المقبل، ولا بعد خمس سنين، بل هذا العام"، بمعنى أن على واشنطن أن تعمل على فكرة قيام الدولتين، التي تبناها الرئيس بوش على قاعدة: الآن –الآن – وليس غداً! واضح، هذه الأيام، أن النظام الرسمي العربي بات يسير وراء ما يؤمن به. فبعد خطاب العاهل الأردني، جاءت قمة الرياض التي عرضت على إسرائيل فرصة السلام والتطبيع مقابل الانسحاب الكامل. غير أن إسرائيل، كما يقول (تسفي برئيل) مراسل الشؤون العربية في صحيفة "هآرتس" في (الأول من أبريل 2007) "قد وضعت الفرصة مرة أخرى أمام الرهينة الطوعية وصُدت للمرة الثانية أيضاً. أيهود أولمرت مستعد كما يقول للتفاوض مع السعودية، ولكن استعداده يبدو مثل هز رأس مُجامل في مواجهة لفتة مزعجة". وتكمن المشكلة بنظر "برئيل" في "أن الثمن المطلوب من إسرائيل أعلى مما تصوره المبادرة العربية، ذلك لأن الأمر لا يتعلق فقط بالانسحاب من المناطق حتى حدود حزيران، أو إيجاد حل متفق عليه لمشكلة اللاجئين. المسألة تدور حول تبني تصور جديد يشمل (لا سمح الله) التنازل عن شعار الشعب الصغير المحاط بالأعداء المريح والمتجذر إلى حد كبير في نفوس الإسرائيليين"! هنا، إذن تكمن المشكلة الأساس، أي "عجز" الدولة الصهيونية عن الإقدام على تسوية تاريخية وعادلة. وفي هذا السياق، وقبل ترسخ الموقف الرسمي العربي المعتدل، نجح الفلسطينيون بإقامة حكومة وحدة وطنية، أزالت مخاطر اندلاع حرب أهلية بين "فتح" و"حماس"، وباشر الرئيس عباس بإقناع أعضاء "اللجنة الرباعية" بالاعتراف بتلك الحكومة، و"إقناع" إسرائيل بقبول مبادرة السلام. لقد دفعت هذه التطورات قيادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ربما رغماً عنها، لتكييف مواقفها مع الواقع واختبار نوايا إسرائيل. فـ"حماس" تدرك، ومن ورائها الرئيس عباس والعرب، أنه إذا رفضت إسرائيل الاعتراف بحكومة الوحدة وردت مبادرة الجامعة العربية، فإن الأسرة الدولية ستدرك عدم قدرة (وربما عدم رغبة) الولايات المتحدة مجدداً في إزاحة إسرائيل عن نهجها التقليدي المعروف في إدارة الصراع. وعندها كما يقول "أفرايم لفي" مدير مركز "تامي شتاينمتس" لبحوث السلام في "هآرتس" في (الأول من أبريل 2007): "سيكون بوسع حماس العودة إلى حضن إيران والى هويتها الإسلامية- الدينية، دون أن يكون ممكناً لومها". كذلك، يكون العرب قد نجحوا في إثبات أن إسرائيل هي من يرفض السلام من باب الرؤية الديموغرافية والتطهير العرقي لضمان الكتل "الاستيطانية"/ الاستعمارية الإسرائيلية في القدس المحتلة والضفة الغربية، وتحويل جدار الفصل العنصري حدوداً نهائية لإسرائيل. شخصياً، لستُ متأكداً إلى أين تتجه إدارة بوش وجبهته "المحافظة" المتصهينة والمتأسرلة بشأن القضية الفلسطينية، لكن على واشنطن الانتباه (طبعاً إن كان ذلك يعوزها! ففي كل مرة يتقدم العرب خطوة تجاه السلام مع إسرائيل، تماطل الأخيرة وتزيد لاءاتها خاصة ما يتعلق بالاستعمار/ "الاستيطان" واللاجئين والقدس، وكل ذلك في ظل ضعف الأمم المتحدة وعجزها عن تفعيل قرارات الشرعية الدولية الخاصة بفلسطين والدول العربية. وعلى الرغم من تعهد الولايات المتحدة بجعل إسرائيل تتوقف عن إقامة "المستوطنات" في الضفة، ناهيك عن سحب قواتها المحتلة إلى المواقع التي كانت فيها قبل انتفاضة الأقصى، وتعهد بوش بإقامة دولة فلسطين في غضون ثلاثة أعوام (لم يبقَ منها سوى سبعة أشهر) لم توضع تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ضمن جدول أعمال الدبلوماسية الأميركية، إلا بعد أن "أدركت" واشنطن حاجتها للعرب لإيجاد مخرج مشرِّف لها في العراق. ولا تزال الإدارة الأميركية تتعثر في اتخاذ سياسة غير منحازة تجاه القضية الفلسطينية. فالمواقف الأميركية، رغم وعود بوش والزيارات المكوكية لوزيرة خارجيته، هي –عملياً- مجرد شراء وقت للسياسة التوسعية الإسرائيلية. أما الموقف العربي والفلسطيني، الذي تتجاهله الولايات المتحدة بشكل مستفز، فيتلخص في إدراك الجميع أن تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية والفلسطينية قبل كل شيء، باتت توفر فرصاً لابد من استثمارها. ومع ذلك، فإن إسرائيل وجبهتها مع "المحافظين" الصهيونيين والمتصهينين لن تقبل بمبادرة السلام العربية، إلا إذا هي أعادت صياغتها، وأفرغت مضمونها، وقامت بإملاء إرادتها! ومن هنا، جاءت مخاطبة العاهل الأردني (نيابة عن كل المعتدلين العرب) للكونجرس الأميركي كي يتحرك اليوم قبل الغد، ولسان حاله يقول: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك!