"هل لك أن تعيد السؤال"؟ ظلت تلك هي الاستجابة الأكثر تردداً وتكراراً للأسئلة التي أثيرها أمام طلابي من دارسي القانون في جامعة "جورج تاون". وعادة ما تأتي هذه الاستجابة من أولئك الطلاب الذين لا يرفعون أبصارهم عن شاشات أجهزة الكمبيوتر المحمول التي تشغل فكرهم ومجالهم البصري. وما أن يرفع الطالب بصره ويسمع السؤال مرة أخرى، حتى يعود إلى النظر مجدداً إلى شاشة الكمبيوتر، وكأن قوة سحرية ما ستسقط الإجابة على شاشة ذلك الجهاز. ومن يدري؟ فربما تظهر الإجابة هناك، في عصرنا هذا، عصر الرسائل السريعة القصيرة، والاتصال الفوري. وفيما أذكر، فقد أقدمت كليتنا شأنها في ذلك شأن الكثير من الكليات الأخرى على امتداد الولايات المتحدة الأميركية، على توصيل شبكة الإنترنت بالفصول، منذ عدة سنوات. وكان قد قيل لي حينها، إن ذلك هو مسار مستقبل العملية التعليمية كلها. أما اليوم، فقد انتقلنا إلى عصر الاتصال اللاسلكي بالشبكة الدولية. وأصبح لزاماً على الطلاب الجدد الملتحقين بالكلية، اقتناء جهاز كمبيوتر محمول لكل منهم. ولذلك فليس غريباً أن يفاجأ طلابي الجدد الذين التحقوا بالكلية هذا العام، بقراري بمنع استخدام المحمول في فصلي الدراسي. وقد دفعني سببان للإقدام على اتخاذ هذا القرار. أولهما أن تسجيل النقاط والملاحظات باستخدام أجهزة المحمول، يشجع الطلاب على التدوين الحرفي للمحاضرات. وهذا بدوره يدفع إلى التدوين المختزل للمعلومات، مما يخل بتماسك المعلومات وترابطها، على النحو الذي تحققه عملية الأخذ والرد من خلال الحوار الفاعل داخل قاعة الدراسة، بين الطلاب والأستاذ. وبسبب البطء الذي يلازم العملية التقليدية لتدوين الملاحظات، فقد أصبح مفضلاً أن يشارك الطلاب في الحوار والأخذ والرد، ثم يقرر أحدهم أولويات المعلومات والنقاط المهمة الواجب تدوينها أثناء المحاضرة. أما السبب الثاني، فهو أن استخدام المحمول داخل قاعات الدراسة، يشجع الطلاب على الإبحار في الشبكة، والانصراف التام عن المحاضرة. وبدلاً من موضوع الدرس، ينشغل الطلاب بمراجعة بريدهم الإلكتروني، أو شراء الأحذية والتذاكر وما إليها من المنتجات المعلن عنها إلكترونياً، وزيارة المواقع المختلفة.. إلى آخره. ولا يقتصر هذا الانصراف عن موضوع الدرس على الطالب المبحر عبر الشبكة وحده، وإنما يشمل في الواقع جميع الطلاب الذين لا يكفون عن التطلع إلى شاشة جهازه، إن لم أقل إن تأثيره السلبي، يشملني أنا نفسي. وبدلاً من إعطاء حق استخدام المحمول لجميع الطلاب، فقد سمحت لطالبين متطوعين فحسب، بتدوين الملاحظات وترتيبها لاحقاً، بحيث تصبح مشاعة لجميع الطلاب ويمكنهم تبادلها لاحقاً فيما بينهم. أما في اليوم الأول الذي سمحت لهم فيه جميعهم باستخدام أجهزتهم، فقد ردت عليّ إحداهم بالسؤال: هلا تفضلت بإعادته؟ وما أن فعلت، حتى عادت تطبع في شاشة جهازها، وكأنها تنتظر بزوغ إجابة سحرية على ما طرحته عليها. وما أن ناقشت زملائي المحاضرين والأساتذة في فكرة خفض استخدام المحمول في قاعات الدراسة، حتى سارع بعضهم لاتهامي بالأبوية والتسلُّط، وما إلى ذلك مما هو أسوأ بكثير من هذه النعوت والصفات السلبية. ورد عليَّ بعضهم بالقول: لقد مارسنا أحلام اليقظة، وانشغلنا بحل الألغاز والكلمات المتقاطعة أثناء الدرس، عندما كنا في أعمارهم، فلماذا إذن نحرمهم الآن من حقهم في توظيف أوقاتهم بالطريقة التي يشاءونها لأنفسهم، خاصة وأنهم طلاب جامعيون راشدون في نهاية الأمر؟! ولكن شتان ما بين صفحة واحدة من صفحات الألغاز أو الكلمات المتقاطعة، تخبأ سراً تحت الكتاب الذي يستخدمه الطالب في قاعة الدرس، ومحرك "جوجل" الإلكتروني، الذي يلقي أمام بصر الطالب، مكتبات بكاملها من المجلات ووسائل الترفيه والتسلية، بما فيها الأفلام السينمائية والتلفزيونية، بكل ما يتيحه ذلك من دردشة جانبية انصرافية بين الطلاب، وإخراجهم بالكامل عن مجال المحاضرة وزمانها. وهل يمكن للأستاذ أو المحاضر، أن يستعيد تركيز الطالب، ويتأكد من خروجه عن إطار المحاضرة، عند السماح له باستخدام شبكة الإنترنت، وزيارة محرك "جوجل" أثناءها؟ وإن كنت أبدي كل هذه الحساسية التعليمية المضادة للاستغراق في استخدام الشبكة أثناء المحاضرات، فما مرد ذلك في حقيقة الأمر، إلا إلى كوني أحد مدمني الإنترنت. وليس أدل على ذلك من مراجعتي لبريدي الإلكتروني أكثر من عشر مرات، أثناء كتابتي لهذا المقال. وما أن أتمكن من السيطرة على نفسي، وأكف عن مراجعة بريدي الإلكتروني خلال عطلة نهاية الأسبوع، حتى أظل مشدوداً إلى حافة الانتظار، حتى أتمكن من مراجعته في المكتب صباح يوم العمل التالي. ومع ذلك، وكأنما الأمر قد خرج عن نطاق سيطرتي تماماً، فإن أول ما أفعله ما أن أتصل بالشبكة صباحاً، هو مراجعة بريدي الإلكتروني. ولكن دعونا من كل هذا الحديث لأنه لا يتعدى كونه نظرياً حتى هذه اللحظة. فالسؤال المهم الآن: كيف يمكن إنجاح منع استخدام الكمبيوتر المحمول عملياً في قاعات الدراسة؟ وإجابتي العملية على السؤال، هي أن الفصل الذي أدرِّسه، أصبح أكثر اتصالاً وانشغالاً بالمحاضرات، قياساً إلى ذلك اليوم الذي سمحت فيه للطلاب بجلب أجهزتهم معهم إلى القاعات. ولما كنت أعلم أنني منحاز في ما أقرره هنا، فقد قررت إجراء استطلاع رأي للطلاب باسم مجهول، بعد مضي ستة أسابيع على قرار منع استخدام المحمول. وقد جاءت النتيجة مذهلة. فقد أكد ما يزيد على 80 في المئة من الطلاب، أنهم أكثر مشاركة في الحوار واهتماماً بالمحاضرة، بعد منع استخدام المحمول! وعلى رغم علمي أن شبكة الإنترنت أصبح لا غنى عنها في العملية التعليمية، في عدة مجالات واستخدامات، فإن استخدامها داخل قاعات الدراسة، ليس أكثر من إزعاج وصرف لاهتمام الطلاب عما يدرسونه قي قاعات المحاضرات.