أحد المثالب الأساسية التي تطبع سياسة الرئيس جورج بوش في العراق، إظهاره لأميركا وكأنها تريد البقاء هناك أكثر مما يريد ذلك العراقيون. وفي هذا السياق فإن المساعي التي يبذلها الكونجرس لفرض قيود على تمويل الحرب في العراق، لا تروم إضعاف المجهود العسكري، بل تسعى إلى تعزيز ذلك المجهود من خلال إرسال إشارات واضحة بأن صبر أميركا بدأ ينفد. وكلما ثابرنا على إيصال تلك الرسالة إلى العراقيين، كلما تحسنت الأوضاع في العراق. فالرئيس بوش ونائبه ديك تشيني يؤكدان دائماً على الالتزام الأميركي الذي لا يحيد بتزويد العراق بمزيد من الدماء الأميركية دون أن تلوح لذلك نهاية في الأفق القريب، كما أنهما يشرفان على إقامة قواعد عسكرية تخيف العراقيين لأنها تبدو لهم قواعد دائمة. والنتيجة هي انبثاق تصورات سلبية حول أميركا في العراق وحقيقة خططها السرية هناك، وهو ما يغذي بدوره الشكوك العربية ويساهم في تعزيز قوة الوطنيين العراقيين المناهضين لأميركا، مثل رجل الدين مقتدى الصدر، فضلاً عما توفره نية البقاء في العراق من اطمئنان لدى الحكومة العراقية يعفيها عن تقديم التنازلات الضرورية لبلوغ حل سياسي. وباختصار فإن إصرارنا على البقاء في العراق هو كارثة عسكرية ودبلوماسية تجعلنا نستقبل مزيداً من الجنود الأميركيين وهم في نعوشهم. ولعل استطلاع الرأي الذي أجرته مؤخراً "أي.بي.سي" للأخبار في العراق، يجلو الأمر بوضوح، حيث كشف أن 80% من شيعة العراق و90% من سُنته، يعارضون التواجد الأميركي في بلادهم، وأن 51% من العراقيين يؤيدون الهجمات ضد القوات الأميركية، ومع ذلك يوجد فقط 35% من العراقيين يريدون الرحيل الفوري للجنود الأميركيين. ويبدو أن هذه النتائج تنطوي على مفارقة كبيرة، إذ لمَ الإقدام على تفجير الأميركيين، ثم مطالبتهم لاحقاً بالبقاء لمدة أطول؟ لكن في ظل الالتزام الذي تحرص إدارة الرئيس بوش على إظهاره للبقاء في العراق، تصبح عملية قتل الأميركيين اليوم لإخراجهم في غضون سنة مفهومة تماماً. ويتضح ذلك أيضاً من خلال تصريحات الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز الذي ندد "بالاحتلال الأجنبي غير الشرعي" للعراق، رغم تأكيده على ضرورة بقاء القوات الأميركية لبعض الوقت لحماية الأقلية السُّنية. بيد أنه إذا ما تغير الوضع، بحيث بدا الأمر وكأن الكونجرس أو الرئيس الجديد، بصدد التهيئة لسحب القوات الأميركية من العراق، فإن الموقف سينقلب رأساً على عقب، وقد نسمع دعوات عراقية تطالبنا بالبقاء لفترة أطول. ولا يعني هذا أنني أملك الحل للمشاكل العراقية المتفاقمة، إذ لا أعتقد أنني، أو أحداً سواي، قادر على اجتراح الحل والخروج من الفوضى أو التقليل من أخطار انزلاق الأوضاع في العراق إلى مستوى المجازر الذي يظل شاخصاً أمامنا. كما أنني لست متأكداً تماماً من أن السياسة التي دافعت عنها والقاضية بتحديد جدول زمني واضح للانسحاب من العراق قد تنجح فعلاً، لكنني على يقين تام بأنه لن يكتب النجاح لأي من السياسات الأميركية في العراق طالما نصر على البقاء هناك أكثر مما يسعى العراقيون إلى ذلك. وربما من المفيد في هذا السياق الإشارة إلى النموذج الكوري الجنوبي، حيث كانت القوات الأميركية المرابطة هناك مصدر انتقادات شديدة من قبل الوطنيين الكوريين لعقود طويلة. وكلما أظهرنا عزمنا على البقاء في كوريا الجنوبية، كلما جوبه ذلك بمزيد من الاستياء والمعارضة من قِبل الشعب الذي لم يعد يرغب في تواجد القواعد الأميركية فوق أراضيه. وتحول الإصرار الأميركي على البقاء في كوريا الجنوبية إلى دليل يساق للإشارة إلى الأهداف الأميركية الخفية. لكن قبل سنوات معدودة أعلن وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد عن نيته في سحب القوات الأميركية من أماكنها قرب الحدود مع كوريا الشمالية ليتضح للجميع أن التواجد الأميركي في كوريا الجنوبية ليس دائماً، وبلا نهاية. وهكذا وبدلاً من مواصلة إصدار الشكاوى ضد القوات الأميركية وسلوكها، بدأ الكوريون الجنوبيون يبدون قلقهم من الخطر الذي يتهددهم في حال انسحاب القوات الأميركية. ويبدو أنه باعتماد سياسة الغموض إزاء استمرار تواجدنا في كوريا الجنوبية خلقنا مزيداً من التأييد لقواتنا. وقد رأينا الأمر ذاته في دول المعسكر السوفييتي سابقاً مثل منغوليا، حيث كان الناس العاديون ينددون باستغلال الاتحاد السوفييتي لبلادهم، لكن مع انهيار الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية عام 1990 شرع الناس في التفكير بمآلهم بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي. ولعل هذا التغير في المواقف هو ما نحتاجه اليوم في العراق بعد أن تظهر الولايات المتحدة عزمها على الانسحاب الفوري، بحيث يضغط ذلك على الحكومة العراقية ويدفعها إلى بذل المزيد من الجهود للوصول إلى تسوية سياسية ترضي جميع الأطراف. وبالطبع لن يتأتى ذلك دون تقديم الزعماء الشيعة المتواجدين في السلطة تنازلات مهمة لمواطنيهم من السُّنة لإخراجهم من دائرة التمرد وإشراكهم الحقيقي في عملية اتخاذ القرار السياسي. لكن طالما تركن الحكومة الحالية، والتي يسيطر عليها الشيعة إلى الدعم والحماية الأميركيين لضمان استمرارها في السلطة، فإنها لن تقدم التنازلات الضرورية لتحقيق المصالحة الوطنية وإخماد نيران الصراع الطائفي المستعر. لذا فإنه بدلاً من إعلان بوش المتكرر بأننا سنبقى في العراق إلى الرمق الأخير، عليه أن يظهر بعض الغموض الذي يوحي بأن الالتزام الأميركي ليس مفتوحاً بلانهاية. ولأنه غير قادر على القيام بذلك ينهض الكونجرس بالمهمة من خلال مطالبته بجدولة انسحاب القوات الأميركية ليوصل رسالة إلى العراقيين مفادها أن الانسحاب ممكن فعلاً، وهو ما قد يضطرهم إلى الاعتماد على أنفسهم في تدبير أمورهم. نيكولاس كريستوف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"