تكشف الهجمات الإرهابية الأخيرة التي تعرضت لها العاصمة الجزائرية في الحادي عشر من أبريل الجاري، وأدت إلى مصرع 23 من الضحايا، عن حقيقة مهمة عن طبيعة الإرهاب "الإسلامي"، لا يزال يجهلها الكثيرون من المسؤولين وصانعي القرارات في الدول الغربية. وتتلخص هذه الحقيقة في أن الحرب التي يشنها الأصوليون المتطرفون، إنما هي حرب على المسلمين أنفسهم، وليس بالضرورة أن تكون حرباً على الغرب، وهم يدركون جيداً احتمال عدم فوزهم بحرب يشنونها على الغرب، خاصة وأنهم ليسوا معنيين بأكثر من تدخل هذا الأخير في شؤون دولهم الإسلامية. لذا فهي حرب على المؤسسات الراسخة في المجتمعات الإسلامية نفسها، وكذلك ضد المعتدلين والإصلاحيين المسلمين. ويترتب على هذا القول إذن، إن على المجتمعات الإسلامية أن تتصدى في نهاية المطاف، لخطر وتحدي هذا الإرهاب الأصولي، الذي سيكون الطرف الخاسر فيه هو الأصوليون في نهاية الأمر. ذلك أنه يستحيل على مجتمع يتألف من مليار نسمة، أن يعود القهقرى إلى نمط حياة القرون الوسطى، حسبما يتطلع ويشتهي الأصوليون، تماماً مثلما هو مستحيل على المجتمعات الأميركية والأوروبية العودة بنمط حياتها إلى تخلف القرون الوسطى. وفي الجزائر على وجه التحديد، فقد ظل الصراع بين الراديكاليين الإسلاميين والحكومة الجزائرية مستمراً منذ عدة سنين. وكانت الحركة التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجمات الأخيرة هذه، قد أنشئت في عام 1998، أي منذ مدة طويلة سابقة لفكرة حرب أو صدام الحضارات، التي سيطرت على المخيلة السياسية الغربية مؤخراً. ولم تختر الجماعية إطلاق تسمية "تنظيم القاعدة" على نفسها وأنشطتها، إلا في شهر مارس المنصرم، مستعيرة بذلك "الماركة التجارية" العالمية للتنظيم الإرهابي المعروف! ولهذه الحركات الإسلامية الأصولية المتشددة، عدة مصادر فكرية، غير أنها تحولت إلى ظاهرة سياسية بارزة، مع تنامي حركة إصلاح المذهب الوهابي في منطقة الجزيرة العربية، خلال القرن الثامن عشر الميلادي. وتقوم هذه الدعوة في الأساس على المطالبة بالعودة إلى الأصول والأعراف الدينية والاجتماعية التي سادت في القرن الإسلامي الثالث، أي إلى حوالى العام 950 ميلادية. وبعد سلسلة طويلة من العراك العسكري الضاري، أمكن لهذه الحركة أن تنتشر في المنطقة في عام 1932. وإلى جانبها كانت هناك عدة حركات إسلامية شبيهة، لعل أشهرها حركة "الإخوان المسلمين" في مصر. غير أن النصر الذي حققته الحركة الوهابية، يعد أهم الانتصارات المحسوبة لصالح هذه الحركات والتيارات الأصولية على الإطلاق. وبفضل عائدات النفط الضخمة، والمؤازرة الأميركية التي حظيت بها هذه الحركة، ابتداءً من أربعينيات القرن الماضي، فقد ضخت الحركة أموالاً طائلة في الترويج لهذه النسخة الأصولية التطهرية من الإسلام، في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. على أنها بقيت في المقابل، غير آبهة بـ"كفر" المجتمع الغربي الآبق، طالما ظل ذلك المجتمع بعيداً عن التدخلات في شؤون الدول الإسلامية. وعليه فلنطرح السؤال التالي: لمَ تخوض الولايات المتحدة اليوم حرباً على الإرهاب المستند على فكر الأصولية، وهي التي رعته وآزرته منذ نعومة أظفاره؟ والإجابة هي السبب الدارج عادة: عجز أميركا عن فهم التداعيات السياسية والثقافية لما تتخذه من أفعال لا تحركها سوى مصلحتها الذاتية الضيقة، لا أكثر. وليس أدل على ذلك من سعي واشنطن للحصول على مساعدة بعض الدول العربية لها، في استقطاب وتجنيد مقاتلين إسلاميين يخوضون عنها حربها بالوكالة ضد الغزو السوفييتي السابق لأفغانستان. والحق يُقال، فقد حققت وكالة المخابرات المركزية "سي.آي. إيه"، نجاحاً باهراً يحفظ لها في ذلك المسعى. ولكن ما الذي حدث بعد أن وضعت الحرب الأفغانية أوزارها، وأرغمت القوات السوفييتية الغازية على الانسحاب من هناك؟ لقد غادرت وكالة "سي آي إيه" أفغانستان هي الأخرى، مخلفة وراءها حركة أصولية إسلامية مدججة بالأسلحة والأفكار الإرهابية المتطرفة. وفي الوقت ذاته، أطلقت وزارة الدفاع الأميركية، خطة انتشارها الأمني العالمي، ونصب قواعدها العسكرية في شتى أنحاء العالم. ومن بين الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها إدارة جورج بوش الأب، إقدامها على نشر بعض القوات الأميركية في الخايج في أعقاب حرب الخليج الثانية. وليس من سبب وراء ذلك الإصرار، والتطاول على الأمم والشعوب، سوى تقديم خدمة المصالح الاستراتيجية الأمنية الأميركية على ما عداها! ومن هنا، فقد نشأ تنظيم "القاعدة" في الأصل، على يد عدد من مقاتلي الحرب الأفغانية، بهدف إرغام القوات الأميركية على الانسحاب من الأراضي المقدسة، التي رأوا وجود تلك القاعدة، تدنيساً وإهانة صارخة فيها لمشاعر المسلمين. وكان في تقدير قادة مقاتلي التنظيم، أنه ربما يفلح العنف في حين تفشل الدبلوماسية في تحقيق الهدف الإسلامي المرجو. وتلك كانت بداية برنامج سلسلة الهجمات الإرهابية المتصلة، التي بلغت أوجها بتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر على كل من نيويورك وواشنطن في عام 2001. وحتى تلك الساعة، فإن تنظيم "القاعدة" لم يكن يعدو عن كونه حركة محدودة مؤلفة من بضعة آلاف من المتحمسين والمتعاطفين مع أفكاره. على أنه كان مدفوعاً منذ لحظتها، برؤية استقطاب وتجنيد ملايين المسلمين لخدمة هدف تخليص العالم الإسلامي من كافة المؤثرات الأجنبية الدخيلة عليه، وكذلك من أجل خدمة هدف فرض الشريعة الإسلامية، وإقامة حياة المجتمع الإسلامي على هدي التقاليد والتعاليم الأولى التي نشأ عليها ذلك المجتمع، أي على غرار ما هو حادث في أفغانستان، إبان حكومة "طالبان". وعليه، فإن من الواجب إقامة الحد على الآثمين والمجرمين، ولا مناص من جز الرؤوس وتقطيع الأوصال، في مقابل تدمير الصور المجسمة والتماثيل، ومحاربة خروج النساء وحرمانهن من حقوق العمل والتعليم. وعلى امتداد الإدارات الأميركية المتعاقبة، بشقيها "الجمهوري" و"الديمقراطي"، تخبطها في هذا المسار، بسبب انشغالها بالحرب الباردة وإمدادات الطاقة، وكذلك بسبب عزم "البنتاجون" على تضخيم ذاتها وتقديم نفسها في صورة وثياب الحارس الساهر على الأمن العالمي، مع العلم أنه دور لم يطالبها به أحد، خارج دائرة واشنطن. وقد أمسك جنون العظمة هذا على إدارة بوش الابن أيضاً، ما دفعه لإعلان حرب لا يقتصر مداها على عصابة من الإرهابيين شنت هجوماً على كل من نيويورك وواشنطن فحسب، وإنما طال واتسع ليشمل "الإرهاب الدولي" بحد ذاته. ولك بعد ذلك أن تتخيل تفاصيل ما يعنيه شن هذه "الحرب العالمية" على صعيد نشر الأسلحة والجنود والنشاط الاستخباراتي العملياتي! فهل يطال هذا الانتشار الجزائر يا ترى.. وهل تسعى إدارة بوش لسحق الإرهابيين وإقامة الديمقراطية هناك أيضاً؟! ــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"