انصرمت أربعة أعوام على احتلال العراق، جعلت منه بؤرة عاصفة للصراعات المفتوحة، التي يأتي الصراع الطائفي في مقدمتها، ومن شأن هذا أن يكون بمثابة دعوة إلى فتح "ملفّ الوطن العربي"، الموضوع الآن على بساط البحث بكيفيات جادة. والقول إن تعثر الاحتلال الأميركي في العراق أوقف ويوقف، عدداً من المغامرات العسكرية المفترضة ضد بلدان عربية معينة، هو قول قد لا يصح لسببين اثنين، أما الأول منهما فيتمثل في أن الإدارة الأميركية ربما تغدو أكثر شراسة في العراق، بعد أن تعفّر وجهها في مستنقع الحرب- الجريمة هناك. فثمة نزعة ثأرية جريحة تخترق تلك الإدارة، دافعة إياها نحو استعادة كرامة مهدورة، خصوصاً أن رأس هذه الإدارة يمثل -بحسب كتابات أميركية وأوروبية- شخصية تفتقد الحدود الضرورية من الحنكة الاستراتيجية العسكرية، ومن العقلانية السياسية، التي تحدث عنها أمثال "كلاوزفيتش" و"ماكس فيبر". أما السبب الثاني، فيقوم على أن قوى الاحتلال نجحت -بالتعاون مع فرقاء داخليين- في إيقاظ نمط من الفتن، يمكن أن يأتي على الأخضر واليابس، ونعني الفتن الطائفية والإثنية والمذهبية (وهو يفعل شيئاً من هذا القبيل). وإذا كان ذلك يتعلق بالعراق خصوصاً، إلا أن السبب السابق الأخير قابل لأن تظهر نتائجه الخطيرة الماحقة في بلدان عربية أخرى، مثل لبنان وسوريا وغيرهما. وثمة عوامل كثيرة أخرى تمثل "خيارات ورهانات" في أيدي النظام الأميركي العولمي (الإسرائيلي) من أجل إشعال النار هنا وهناك من العالم العربي، ومن أجل تعميق احتلال العراق. وحديث من هذا القبيل يطرح على بساط البحث المخاطر، التي تحملها الوضعية العربية الراهنة. من أهم تلك الخيارات والرهانات الاشتغال على واقع "الانكشاف الاستراتيجي"، ذي الحقول التي تكاد تكون شاملة في العالم العربي. ومن شأن هذا أن يمثل تحدياً خطيراً بالاعتبار الاستراتيجي لكل البلدان العربية، خصوصاً حين يتصل الأمر بالحقل الأمني. فكل هذه البلدان تمثل كفاً مفتوحة أمام ما هبّ ودبّ من الاختراقات والتدخلات القادمة من ذلك المحور الأميركي- الإسرائيلي، ومن غيره من المحاور الأوروبية، وغيرها داخل العالم العربي وخارجه. المجتمعات العربية أخلِيت أو تكاد أن تُخلى من السياسة والمجتمع السياسي، أي من الصراعات والحراكات السياسية السلمية بفعل "قوانين الطوارئ والأحكام العرفية" المهيمنة فيها ضمناً أو إفصاحاً، ممّا أسس لحالة من الهشاشة في وجود الحريات السياسية والثقافية وغيرها، بحيث أُقصي الحوار حول المشكلات القديمة والجديدة، التي ما تزال معلقة في الحساب العربي. وبدلاً من هذا وذاك، تضخمت الأجهزة الأمنية إلى حيث قادت -مع عوامل كثيرة- إلى تأسيس "نظام أمني" يضع يده على كل كبيرة وصغيرة في المجتمعات العربية. المشهد العربي الراهن، والحال كذلك، هو الآن في طور إنتاج أو إعادة إنتاج، قوتين اثنتين في رحم المجتمعات العربية، هما النُّظم السياسية التسلطية والاستبدادية أولاً، والتيارات الإسلامية، خصوصاً ذات الميول والاتجاهات الأصولية والجهادية التكفيرية ثانياً. وقد تحدث عن ذلك "ناتان شارانسكي"، الذي يضيف إليه في كتابه "الدفاع عن الديمقراطية" الفكرة التي يراها حاسمة لتحديد "واقع الحال" في الشرق الأوسط، وهي أن (الدولة العبرية) تمثل تحدياً جدّياً واستراتيجياً لتلك النظم السياسية. ويصح القول -في هذا السياق- إن القوتين المذكورتين كلتيهما لم تنشآ ولم تستمرا -بقدْر ما- بعيداً عن وجود تلك الدولة العبرية. وبهذا الاعتبار يتضح أن الانكشاف الاستراتيجي لم ينطلق من العمل على اختراق البِنى العربية الداخلية لجعْلها رهينة في أيدي المخترِقين من قوى الغرب أميركياً وأوروبياً فحسب. لقد قُدّمت تلك الرهينة، كذلك، إلى إسرائيل للتصرّف بها وفق الحاجة، إنه انكشاف يضع الضحية في يدي القاتل. وقياساً على ذلك، تمت عملية اختراق سائر الحقول العربية، الاستراتيجية وما دونها. ولعل في القطع بهذا القول ما يُخرجنا عن الحذر المنهجي العلمي، وما يجعلنا نعمل من (الآخر) أسطورة تقطع علينا الأنفاس، وتُدخلنا في نفق من الشك الذاتي ومن الاعتقاد أن "كل شيء انتهى أمامنا". في ملاحظة ذلك كله، قد يطرح السؤال التالي نفسه بكثير من الهلع والاضطراب وبقليل من التوازن والعقلانية الاستراتيجية: أما زال محتملاً أن يراهَن على موقفٍ ما يمكن أن يقود إلى حدّ من "الخلاص"، أما زالت توجد آفاق مفتوحة للخروج من هذا النفق، الذي يكاد يكون مغلقاً بتمامه؟ ليس من قبيل التفاؤل التاريخي أن تُطرح ها هنا "يوتوبيا" قد تتكشف عن زيفها المعرفي التاريخي وعن سذاجتها الإنسانية. واقع الحال العربي المشخّص يكاد يضع أمامنا حالة من "الخلاص" الزائف، والمتمثل في أن نُلقي بكل آمالنا ورهاناتنا في كفّة "الخارج" بوصفه مخلّصاً وحيداً لنا. لكن ذلك من الصعب أن يخرج من دائرة البطلان النظري والعملي، والأدلة القاطعة على ذلك موجودة بكل ثقلها، إن أنموذج العراق يخيّب كل الآمال في "نظرية الخلاص الخارجي". هكذا، نجد أنفسنا عراةً أمام (الآخر)، ولكنْ -بشكل خاص- أمام أنفسنا.