تتعالى أصواتنا مبحوحة بالألم في أعقاب كل عملية إرهابية تستهدف حياة المدنيين المسلمين، مرة في حفل زفاف بعمّان وأخرى في أسواق الأزهر بالقاهرة وأخيراً في قلب العاصمة الجزائرية. ندين العمليات الوحشية حيناً ونطالب بمكافحة الإرهاب حيناً آخر، ونناشد حكوماتنا بتجفيف المنابع الاجتماعية التي تضغط بوطأة الفقر الاقتصادي والحرمان من المشاركة السياسية وقلة الفرص على بعض شباب المسلمين، فتدفعهم فرائس سهلة طيّعة العقول لفكر تكفير المسلمين والانتحار الجماعي. نهاجم سياسة الولايات المتحدة المنحازة انحيازاً أعمى للمظالم الإسرائيلية الواقعة على شعبنا في فلسطين، ونطالبها بدور الوسيط النزيه لرفع الظلم والاستجابة لمبادرة السلام العربية وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية لتجفيف منابع الكراهية القومية وإفرازاتها المريرة بين شبابنا. ندعو منظّري التكفير إلى أن يتقوا الله في أرواح المسلمين الأبرياء الذين يقيمون في حياتهم اليومية، شريعة الإسلام بمحض إرادتهم وبمطلق إيمانهم واختيارهم، ثم يصابون بالذهول عندما يسقط ذووهم ضحايا لإرهاب يزعم الاتشاح بالإسلام. كل هذا الذي ننادي به نحن معشر الكتاب المنتمين إلى صفوف المسلمين المعتدلين المؤمنين الموحدين بالله، يمثل بالتأكيد، أموراً مهمة بشأن الظاهرة الإرهابية، غير أن هناك نوعاً آخر من الفكر والمساجلة الفكرية، لا يقل أهمية بل ربما كان أقدر من أفكارنا على مخاطبة منظري التكفير. لقد نشرت صحيفة "المصري اليوم" في عدد الجمعة الماضي بياناً لـ"الجماعة الإسلامية" في مصر، وهي إحدى أخطر الجماعات في تاريخ الأعمال الإرهابية في مصر، ثم قامت بعملية مراجعة فكرية لمنهج العنف والقتل والتفجيرات مسجلة تراجعها عنه. في سطور البيان الموجّه إلى تنظيم "القاعدة" الذي أعلن مسؤوليته عن تفجيرات الجزائر، تظهر المقومات الفكرية لمراجعة منهج العنف والعدول عنه إلى العمل السلمي. يقول البيان: "إن الحركات الإسلامية لم تجنِ من الصدام المسلح مع دولها، الذي امتد قرابة قرن من الزمان، سوى الدمار والتشريد والاعتقال والقتل. إضافة إلى أنه لم يحقق حقاً ولم يبطل باطلاً ولم يقم شريعة ولم يرد ظالماً ولم يوقف بغياً ولم يعد خلافة ولم يقم للإسلام دولة، وكذلك لم يحفظ حتى للحركة الإسلامية قوتها ونقاءها وصفاءها ولم يحبِّب الناس في الدين أو يقربهم من الله". إن هذا النوع من السجال الفكري بين أقران مروا بتجربة فكر العنف الديني، يبدو أكثر تأثيراً من أفكار جمهور الكتاب المسلمين المعتدلين الذين هم -بطبيعة الحال- غرباء عن مدرسة التكفير، وبالتالي فهم موضع شك وتكفير من أصحاب هذه المدرسة. يقول بيان الجماعة الإسلامية: "إن الخاسر الحقيقي في كل هذه التفجيرات هو الإسلام نفسه، ودعوته النقية البيضاء التي تتلوث صفحتها بين الحين والآخر بالدماء المحرمة المعصومة. ولقد قلنا مراراً وتكراراً إن مثل هذه التفجيرات العشوائية في بلاد المسلمين لا تقيم ديناً ولا تصلح دولاً ولن تحل أزمات الإسلام أو دوله أو جماعاته أو أفراده، بل زادتنا خبالاً وأوقعت الحركات الإسلامية في حرج شرعي وواقعي بالغ". وعن عواقب الأعمال الإرهابية يقول بيان "الجماعة الإسلامية": "إن هذه التفجيرات تطيب لها نفوس أعداء الإسلام ويفرح بها المتربصون شراً بأوطان المسلمين، لأنها تقدم لهم الذريعة تلو الأخرى لدسّ أنوفهم في شؤوننا الداخلية ومحاولة الضغط المتواصل لمحو الهوية الثقافية للمسلمين وتغيير ثوابتهم الدينية، فضلاً عن المحرمات الشرعية الصريحة والواضحة التي لا يقرها الشرع الحنيف، ومنها إزهاق أرواح مسلمة بغير حق وعدم تحقيق أي مصلحة شرعية من هذه التفجيرات التي حققت كل المفاسد الشرعية". أرجو أن يضيف هذا السجال بين أبناء المدرسة الواحدة، عنصراً جديداً يهدي إلى الرشد، ويعفي أمتنا ودينها من هذه الكوارث وتبعاتها، بقدر ما أرجو الالتفات إلى سائر العناصر التي أشرت إليها في صدر المقال.