قد لا يمكننا أن نشفى بسرعة من صدمة أحداث مثل تلك التي وقعت في المغرب والجزائر. أما إمكانية شفاء العراق من "جنون القتل" فمحدودة للغاية حتى على المدى الوسيط. يبدأ جنون القتل باعتياده ثم يتدرج وصولا إلى حالة مذهلة لا يرضى الشخص فيها عن نفسه إلا إذا عاد إلى بيته بعد أن يكون قتل أعداداً كبيرةً من الناس دون تمييز. لنترك التحليل النفسي مؤقتاً ونعود إلى المشكلة الأخلاقية ومن ثم إلى المشكلة القانونية والسياسية. لم تحل الإنسانية مفارقة الموقف المسالم أمام العنف العقيدي ولا أمام جنون العنف كحالة يتردى إليها البشر. المفارقة في أبسط صورها كالتالي؛ هناك شخص مصمم على قتلك, لأسباب عقيدية ويقينية, بينما أنت مصمم على عدم إهدار دمه حتى لو كان ذلك مبرراً بمنطق الدفاع عن النفس. ويمكنك أن تبادر بقتله قبل أن يقتلك، ولكنك مصمم على احترام معنى حكم القانون وإنقاذ كل روح بشرية. ولو أنت قبلت بفكرة الدفاع بالهجوم أو ما يسميه الأميركيون بالضربات أو الحروب الاستباقية، لا بد في نهاية المطاف أن تتحول إلى قاتل أو حتى سفاح. لابد أننا قد وعينا هذا الدرس. إن التبرير الأخلاقي لموقف يدافع عن الروح الإنسانية ومن ثم عن السلام معروف. فحتى الدفاع الشرعي عن النفس، وهو أساس القانون في كل العصور، يتورط في تعريف كلمة تبدو بسيطة وهي "الدفاع". ولكن القضية الأعمق هي أن الإيمان بالسلام والرؤية الأخلاقية للعالم تملي احترام كل روح إنسانية وتقول بأن الله هو صاحب الحق الوحيد في إنهاء حياة إنسان. ويعني ذلك أن الموقف الأخلاقي يجب أن يتماسك بكل قوة بفكرة الدفاع عن كل روح إنسانية حتى عندما يضطر لوقف عمليات العنف بالعنف المنظم. أما المفارقة فهي أن من يبدأ بالعدوان ضد شخص مسالم ومؤمن بقدسية الروح الإنسانية ينتصر بالضرورة. فإن كان من المحتم أن نمنع انتصار العنف والشر الكامن في القتل، فلابد في نهاية المطاف من شل مثل هؤلاء الأشخاص وقد يكون ذلك بسجنهم أو عندما لا يكون ذلك ممكناً قد يتحتم إنهاء حياتهم. ولكن ما أن تبدأ في إنهاء حياة إنسان حتى تصبح بمعنى محدد للغاية مثله، أي قاتلا. ولا يفيد كثيراً القول بأن القتل تم دفاعاً عن النفس. فإن بدأت إنهاء حياة إنسان قد لا تستطيع أن تتوقف قبل أن تقتل آخر وصولاً إلى تكوين نفسية تقتل بطمأنينة ثم ذهاباً إلى مستوى السفاحين. ولكن العكس: أي التمسك بموقف عدم العنف والترفع عن الدفاع عن النفس ليس بدوره ممكناً، لا من الناحية النفسية ولا حتى من الناحية البيولوجية. ذلك أن الجسم الإنساني مزود بآليات تحث كل الأشخاص على اجتناب الإيذاء وبالتالي الدفاع عن النفس. ومن المحتم أن يتمتع المجتمع بهذه الآليات. وتتفاقم هذه المفارقة مع وصول الناس كأفراد أو كجماعة إنسانية لحالة "جنون القتل". ليس من الضروري أن تكون للقاتل من هذا النوع عقيدة معينة. وفي أكثر الحالات ينتهي تأثير العقيدة وتبدأ حالة الجنون نفسها في تشكيل دافع القتل. والواقع أن أسوأ أنواع القتلة هو من يتبنى عقيدة العنف المطلق أو العنف للنهاية وبدون أي حل وسط, كمنهج حياة, وكرؤية ذرائعية بهدف كسب الصراعات, والحصول على القوة والسلطة. فطالما نتحدث عن العقيدة يبقى الأشخاص تحت تأثير نوع ما من العقل. والقتل انطلاقاً من موقف عقلي يعني أنه اختيار واع حيث يكون الشخص تحت السيطرة الاعتيادية لعقله. أما حالة جنون القتل فهي تبدأ من حيث ينتهي العقل: أي من حالة ذهانية أو نفسية. ومن المنطقي أن تبدأ عمليات العنف والقتل السياسي بموقف عقلي أو عقيدي. وفي الأحوال الاعتيادية يبقى الشخص وتبقى الحركات السياسية التي تقوم بأعمال العنف تحت السيطرة الذهنية أو التخطيطية. ويظل من الممكن نظرياً "حصر" العنف وإعمال القتل في نطاق ما بغض النظر عن سعة هذا النطاق وعدد أو حالات انطلاق آلة العنف. وفي أسوأ الأحوال تنطلق عمليات العنف والقتل من عقيدة تضع النصر غاية نهائية وكلية لا يدانيها أو يحجزها أي اعتبار أخلاقي أو إنساني أو حتى سياسي. وكانت مدرسة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في السياسة قريبة للغاية من هذه العقيدة. ويبدو أن تلاميذه الحاليين يتابعون تطبيق هذه المدرسة نفسها باسم المقاومة. كما أن هذه المدرسة قد انتقلت إلى قطاع واسع من السياسة العربية الرسمية وغير الرسمية. غير أن انزلاق هذه المدرسة إلى حالة "جنون القتل" يصبح محتماً مع انطلاق سلاسل عمليات الثأر واعتياد القتل الجماعي والعشوائي. وكان ذلك قد وقع في الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي وحتى سنوات قليلة مضت ثم عاد للبروز في العمليات الأخيرة بعد أن كان قد هدأ كثيراً. وهذا هو أيضاً ما يحدث في العراق منذ عام 2003. وفي تقديري أن هذه الحالة هي نقيض لفكرة المقاومة. إذ يجب أن نحتفظ بمصطلح "المقاومة" لهذا النوع من العنف- ضد الاحتلال والظلم- الذي يحتفظ بعلاقة وطيدة وعميقة مع هدف نبيل ووسائل أخلاقية ومع قيم إنسانية عامة. فليس من المقاومة في شيء القيام بعمليات تفجير عشوائي في مكان جماهيري ما لأن المكان يغشاه جمهور به نسبة مرتفعة من الشيعة الذين تعتبرهم مدرسة العنف العقيدي السنية المتطرفة من الكفار! أو لأن به نسبة كبيرة من السنة الذين تعتبرهم مدرسة العنف العقيدى الشيعية المتطرفة من "أنصار معاوية"! إن الصراع يتم تفريغه مع الوقت من أية قيمة أو مبدأ إنساني أو سياسي مهما بلغت فنون الدعاية الرخيصة من تعقيد. فالصراع يجري في الحقيقة أساساً بين عصابات إجرامية وليس بين قوى سياسية محترمة حول مشروعيات أخلاقية أو سياسية. ولا يمكن حل المفارقة التي نتحدث عنها من خلال المنطق وحده. إذ يجب أن يكون "الحل" تاريخياً وأن يبدأ بتمييز حالات مختلفة ليتعامل مع كل حالة على حدة. فطالما أن الموقف التاريخي يتيح فرصة حقيقية لوضع القانون موضع التطبيق والدفاع عنه بقدر معقول من الحزم والعقلانية يجب على المجتمع أن يبذل كل جهد ممكن لإنقاذ كل روح وأن يخاطب كل نزعة إنسانية ممكنة في الأشخاص والحركات المتورطة في هذا النوع من السلوك العنفوي. ويجب على المجتمع التوقف طويلاً عندما يبدأ الانزلاق إلى "حالة جنون القتل" لكي يراجع نفسه ويسدد خطاه ويبحث عن الدواء المناسب. أما عندما ينزلق المجتمع فعلاً إلى هذه الحالة فقد لا يمكن وقف آلة القتل الشعوائي إلا من خلال "حل خارجي": أي إقدام قوة ما من خارج المجتمع على التدخل لوقف هذه الحالة. علينا أن نعترف بأن المجتمع السياسي العراقي مثلاً صار أسيراً لحالة "جنون القتل". ولا يمكن توقع أن يتمكن هذا المجتمع من الخروج من هذه الحالة بقدراته الذاتية. ولذلك أعتقد أن بداية حل مشكلة العراق هي وضعه تحت إدارة الأمم المتحدة وضمان خروج القوات الأميركية وحل جميع الميليشيات العسكرية واعتبارها "عصابات إجرامية" خارج القانون ثم إطلاق عملية سياسية جديدة تقوم على مؤسسات حزبية وسياسية ملزمة بالتنوع الطائفي والديني وتقوم على برامج عمل سياسية وصولاً إلى انتخابات عامة جديدة تنقل العراق إلى حالة العقل والقانون.