كلما أمعن الإنسان النظر في طريقة تعامل العرب مع أحوالهم التي يواجهون، تذكر الأسطورة التاريخية الشهيرة التي تصف نقاش القساوسة المسيحيين الجاد المضحك حول عدد الملائكة الذين يستطيعون الجلوس على رأس دبوس، بينما مدينتهم محاصرة بجيوش الأعداء! وإلا، فما الذي يفسر اللُّّّّّّّّّّّّّّّغو الذي نسمعه ونقرأه والحركات التي يقوم بها البعض؟ ما معنى المناظرات في الصحف والكتب والمحطات الفضائية، حول الخلافات المذهبية بين السنًّة والشيعة، بينما الوحش الاستعماري- الصهيوني يلغ في دم فلسطين والعراق، ويحاول كسر عظام دولة إسلامية أخرى؟ وما معنى قيام المعارك الاستقطابية الكبرى، المؤجٍّّّّّّّّجة للمشاعر البدائية، بين العاملين في السياسة من الإسلاميين والليبراليين حول لقطات سينمائية عابرة أو مشاهد مسرحية محدودة أو جملة مكتوبة هنا وهناك... بينما يموت من الجوع والمرض والعري ملايين الناس في بلاد العرب والإسلام، وتتمّاستباحة تاريخهم وجغرافيتهم وثقافتهم؟ ما معنى الدراسات التحليلية المستفيضة، مدحاً أو ذماً، إعجاباً أو تحقيراً، لكل ما يجرى في دول أميركا الجنوبية ودول الشرق الأقصى ودول شرق أوروبا وغيرها، بينما لازالت أرض العرب وأرض المسلمين تعيش الفوضى الفكرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والأدبية والدينية وغيرها؟ هل هناك حاجة لأمثلة أكثر؟ كلا، فالجميع أصبح يتساءل إن كانت هذه الأمة، وتحديداً بعض قادتها ومسؤولوها، تسمع طبول الغزاة المحاصرين لوجودها، وليس فقط لمدنها وقلاعها، وما إذا كانوا يدركون أن الاستباحة لن تقف عند حد ما لم يوقفها أحد؟! بل هناك تساؤل مشروع جداً: هل هذه الأمة جادة في أن تكون لها ثوابت تعطيها الأولوية القصوى، وتدافع عنها باستماتة، وترفض أن ينصرف ذهنها إلى ما عداها، حتى تصبح هذه الثوابت جزءاً من لحمها ودمها وروحها؟! هل تستطيع أمة أن تعيش بلا ثوابت، أي هوية وأهداف كبرى وأحلام مشروعة وخطوط حمراء... لا يُسمح لأحد، من الداخل والخارج، أن يتخطاها؟! ألسنا بطريقة تعاملنا مع الأحداث التي تعصف بنا نشبه أولئك القسس الذين شغلهم الجدل حول الملائكة عن الاهتمام بأمور البشر؟ الأمثلة التي أعطيت، سواء ما كان منها يخصُّ المسؤولين الذين لا يضبط الكثير من تصرفاتهم منطق وطني أو قومي ولاحسًّ بالمسؤولية التاريخية، أو ما كان منها يخصّ المشتغلين في الحياة المدنية من قادة ومفكرين وإعلاميين غير شاعرين حقاً بالكارثة التي تعيشها أمتهم... تشير إلى أهمية النظر في المشروع النهضوي العربي حتى يصبح مشروعاً مقنعاً ومقبولاً للأمة كلها، وليس لواضعيه فقط أو لجماعة محدودة من الأمة. وتشير أيضاً إلى ضرورة النظر في ما يعرف بالكتلة التاريخية التي ستحمل مسؤولية تبني ذلك المشروع النهضوي والدفاع عنه وإقناع الأمة بثوابته كجزءٍ من عقلها ووجدانها وروحها، تحارب في سبيلها ليل نهار، ومن ثم ترفض تضييع جهودها في الهوامش والتفاصيل الصغيرة التي لا جدوى منها. المشروع النهضوي، كثوابت وكهوية وكمحرمات، يتجدد دوماً ليواكب الأحداث التي تعصف بهذا الوطن الكبير، والكتلة التاريخية التي لا تنشغل إلا بهذا المشروع ولا تعرف مقياساً لأحكامها وأفعالها وتحالفاتها إلا ما يؤدي لتحقيق هذا المشروع، هما الجناحان اللذان سيطير بهما طائر العرب المهيض الجناح، المثقل بجراحه. على الإسلاميين والقوميين والليبراليين واليساريين... أن يرتقوا إلى ذلك المستوى ويتوقفوا عن التسلّي بلعب الأطفال، إذ يكفي الأمة تحمل أعاجيب بعض مسؤوليها! د. علي محمد فخرو