من يستهدف المستقبل فعليه بقراءة الحاضر من جوانبه وزواياه كافة، ويتعاظم التحدّي حينما يكون سقف الطموح متجاوزاً الأطر الجغرافية الضيقة وملامساً أجواء "التنافسية العالمية"، ولأن دولة الإمارات اعتادت أجواء التنافس والتحدّي التنموي وحققت فيها نجاحات مشهودة، فإن الاستراتيجية الاتحادية التي أعلن عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، الأول من أمس، ترفع سقف الطموح وتضع الإمارات على طريق "التنافسية العالمية" انطلاقاً من أرض صلبة ورؤية لا تتجاهل الواقع أياً كانت مثالبه وثغراته. بالفعل جاءت مفردات حديث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، مغايرة لما اعتدنا عليه في عالمنا العربي، بل كان الحديث عن واقع بعض الوزارات والأجهزة الحكومية أقرب إلى أن يكون "أشعة تشخيصية" لواقع لا نريد الالتفاف عليه ولا التهرب منه لأن مرحلة التمكين ترتكز بالأساس على أجواء الشفافية والمكاشفة ولا تحتاج إلى إخفاء العيوب والتستر على الثغرات بقدر ما تتطلب مجاهرة بأي نقص ومبادرة إلى ترميم أي تشققات في جدار بناء يعلو ويرتقي بفعل عزم الرجال. لم نعتد، عربياً، أن يتحدث مسؤول رفيع المستوى بهذه اللغة الناقدة الصريحة التي لا تحتمل التأويل ولا التفسير، ولم نعتد الاعتراف بحقائق الأمور وتأطير حدود المسؤوليات، ولكن الإمارات التي حجزت لنفسها بالفعل موعداً مع المستقبل، تحتاج إلى تجاوز الأطر والآليات التقليدية للأداء السياسي والتنفيذي، بل هي تحتاج إلى أجواء مغايرة من الإبداع والابتكار التخطيطي والتنفيذي في جميع مواقع العمل. عندما تقف دولة الإمارات، بكل ما تمتلكه من إمكانيات مادية وخبرات تنفيذية وطاقات بشرية وطموحات لا حدود لها، وراء استراتيجية واضحة المعالم بهذا الشكل، فإن علينا أن ننتظر تحقيق طفرات نوعية في الأداء، خصوصاً في القطاعات التي حددتها الاستراتيجية، مشيرة إلى أنها تعاني أوجه نقص وثغرات عديدة في التخطيط الاستراتيجي. أحد الجوانب المضيئة التي تضمنتها الاستراتيجية الاتحادية أنها تستهدف تعزيز التعاون والتنسيق بين الاتحادي والمحلي والتركيز على إحداث حراك هائل في مختلف القطاعات دون اللجوء إلى مسميات ومفاهيم فضفاضة مثل "الثورة الإدارية" و"الثورة التشريعية" وغير ذلك من مصطلحات ومفاهيم التصقت في أذهان الناس بسلسلة من الإخفاقات المتوالية في عالمنا العربي، ولذا فقد أحسن مخططو الاستراتيجية صنعاً عند تسمية الأمور بمسمياتها وتحديد الأهداف بدقة واقعية لا تميل إلى التهويل ولا التهوين، ولا تتلاعب بالألفاظ والمشاعر سعياً وراء انتصارات مرحلية أو زائفة لا يلبث الوقت أن يكتشف سوءاتها. حملت الاستراتيجية أيضاً بوادر أمل في وجود رؤية واضحة لآفاق التعامل مع ملف "العمالة الوافدة"، ولفت الانتباه إلى تضمين مبدأ "الانتقاء" في اختيار "العمالة الوافدة" كبوابة ضرورية في التعاطي مع هذا الملف الحيوي، سواء لتعزيز معدلات التوطين أو لضمان أقصى استفادة ممكنة من جلب "العمالة الوافدة"؛ ومن الضروري في هذه الجزئية تحديداً الإشارة إلى تخطيط سياسات العمل بما ينسجم مع مبدأ "الانتقاء" الذي يحتاج إلى جهد هائل وتركيز كبير، فنحن بحاجة ماسة إلى التحديد الدقيق لاحتياجاتنا السنوية من العمالة النوعية التي تضمن استمرارية الازدهار الاقتصادي، وكي نضمن تحقيق معدلات النمو التي نصبو إليها في السنوات المقبلة، كما نحتاج إلى رسم خارطة مستقبلية لسوق العمل المحلي وأيضاً ربط احتياجاته من الخريجين بتخصصات التعليم العالي ومناهجه ربطاً فعلياً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية.