لم تبدأ جرائم القتل الجماعي في أميركا مع حادث إطلاق النار الذي شهدته تكساس من على أحد الأبراج عام 1966، فطوال التاريخ كانت دائماً هناك حوادث مشابهة لعمليات إطلاق النار، بما فيها جرائم القتل الجماعي المروعة وما تخلفه من ضحايا وألم كبير. وبطبيعة الحال فقد عرف النصف الأول من القرن العشرين حوادث عديدة ظلت عالقة في الأذهان مثل حالة "هوارد أونرو"، الجندي السابق في الحرب العالمية الثانية الذي قتل 13 شخصاً في وقت وجيز لا يتعدى 13 دقيقة في ولاية "نيو جيرزي" عام 1949 بعدما اضطربت صحته العقلية. غير أن النقلة النوعية في حوادث إطلاق النار كانت في عام 1966 عندما صعد "تشارلو ويتمان"، الطالب في جامعة تكساس بأوستن، إلى الطابق 27 من أحد الأبراج وأطلق النار على المارة ليردي 14 شخصاً ويجرح 31 آخرين قبل أن يقتله رجال الشرطة. ولم تقف الحوادث عند ذلك التاريخ، بل استمرت في الصعود المطرد لتصبح عمليات القتل الجماعي في الولايات المتحدة أكثر حضوراً، وتعددت الحوادث التي عمت مناطق مختلفة من أميركا وأوقعت المزيد من الضحايا. وتبقى سبع من أكبر ثماني عمليات قتل شهدتها الولايات المتحدة في تاريخها هي التي وقعت خلال خمس وعشرين سنة الأخيرة. ورغم أن الحادث الأخير الذي هز جامعة فرجينيا للتكنولوجيا وأوقع 32 قتيلاً على الأقل قد يكون الأسوأ من بين جميع العمليات السابقة، إلا أنها ليست في الواقع سوى حادثة واحدة من بين عشرين أخرى تقع سنوياً في الولايات المتحدة. ويذكر أن عمليات القتل الجماعي تعرف عادة بأنها العمليات التي تخلف أكثر من أربعة قتلى في لحظة زمنية واحدة خلافاً مثلا للقتل المتسلسل الذي يحدث على فترة زمنية متباعدة. فما الذي يفسر لنا هذا الارتفاع المطرد في عدد جرائم القتل الجماعي في الولايات المتحدة؟ هل يمكن أن يكون الرجال (95% من الجرائم يرتكبها الرجال الذين يكونون أكثر قدرة على استخدام الأسلحة النارية) قد تحولوا بكل بساطة إلى كائنات أكثر تعطشاً لسفك الدماء مقارنة مع الفترة السابقة عن 1966؟ بالطبع لا يمكن الركون لذلك التفسير لفهم ما يجري وسبر غور الارتفاع المقلق في جرائم القتل الجماعي، لكن هناك مجموعة من التغيرات التي طرأت وجعلت تلك الحوادث المروعة أكثر حضوراً. ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الخصوص هو التغير الذي لحق بقوة الأسلحة وقدرتها على إيقاع عدد أكبر من الضحايا. فقبل عام 1966 كانت الأسلحة المتوفرة عبارة عن مسدسات، أو بنادق تقليدية تبقى قدرتها محدودة على إزهاق الأرواح كما تقوم به مثلا الأسلحة الأوتوماتيكية التي أصبحت متاحة بسهولة اليوم. لكن الأهم من ذلك هو التغيرات الاجتماعية التي شهدتها الولايات المتحدة طيلة الفترة السابقة وساهمت في ارتفاع جرائم القتل الجماعي. ومن خلال دراستي الطويلة لجرائم القتل الجماعي التي امتدت على مدى 25 سنة، تمكنت أنا وزميلي "جاك ليفين" من رصد خمسة عوامل توجد تقريباً في جميع الحالات التي أخضعناها للفحص والتحليل. أولاً؛ عادة ما يكون مقترفو تلك الجرائم قد عاشوا تاريخاً طويلاً من الإحباط والفشل وتقلصت قدرتهم على التأقلم مع الحياة وخيباتها الكثيرة. ثانياً؛ يلجأ القتلة إلى إلقاء اللوم على الآخر، معتبرين أنهم لم يعطوا الفرصة لإثبات أنفسهم. وفي بعض الأحيان يعتبرون أن انتماءهم العرقي والإثني، أو حتى الجنسي، يحول دون نجاحهم وقبولهم من الآخرين. (ولعل المثال الواضح على هذا العامل هو ما قام به مارك لوبين الذي قتل 14 طالبة في كلية الهندسة المتخصصة في جامعة مونتريال بكندا، لأنه شعر بأن النساء قد احتكروا أغلب المقاعد في الكلية). ثالثاً؛ يفتقد القتلة بشكل عام للدعم العاطفي من قبل الأصدقاء والعائلة، حيث عادة ما نجد العبارة نفسها تتردد على ألسنة المستجوبين من معارف القاتل تقول "إنه كان دائماً يعيش وحيداً"، وهو ما يكون له أساس فعلي في الواقع. رابعاً؛ كثيراً ما يعاني القتلة من حادثة تكون بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس وتدفع إلى ارتكاب الجريمة كأن يفقد القاتل عمله مثلاً، أو تنتهي علاقة عاطفية على نحو مأساوي. وقد لاحظنا أن الجرائم التي حدثت في الجامعات كانت جلها تصب حول الإحساس بالظلم كأن يشعر القاتل بأنه لم يحصل على العلامة التي يعتقد بأنه يستحقها. أما العامل الخامس والأخير فهو حاجة القاتل إلى التنفيس عن فشله وشعوره بالإحباط عبر الأسلحة النارية. فما الذي تغير إذن في كل ذلك؟ أمر واحد أصبح ملحوظاً في الولايات المتحدة يتمثل في المنافسة الشرسة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة. فنحن نقدر هؤلاء الذين ينجزون مهما كانت الوسائل، بينما يتضاءل تعاطفنا مع الذين لم يتمكنوا من الوصول، وهو ما يغذي بالطبع الشعور بالإحباط لدى الأقل حظاً في النجاح. ويضاف إلى ذلك تلاشي الحياة الجماعية التقليدية، مع ارتفاع حالات الطلاق، وتدني نسبة الذهاب إلى الكنيسة، فضلاً عن اكتساح الحياة المدينة، حيث بالكاد يعرف الجار جاره. وإذا كانت العزلة والشعور بالوحدة إحدى العوامل المرصودة بكثرة في جرائم القتل الجماعي، فإن مثل هذه التغيرات الاجتماعية تساهم في تأججها أكثر. فالعديد من مرتكبي تلك الجرائم هم أشخاص انقطعوا عن جذورهم وانتقلوا إلى أماكن بعيدة مثل حالة "جيمس هوبرتي" الذي قتل عام 1984 في أحد مطاعم "ماكدونالد" بكاليفورنيا 21 شخصاً بعدما فقد عمله ولم يكن له أحد في كاليفورنيا لدعمه ويقف بجانبه. جيمس آلان فوكس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ العدالة الجنائية في جامعة "نورثإيست" الأميركية ومؤلف كتب منها "الرغبة في القتل" و"القتل المتطرف". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"