مع تورط الولايات المتحدة في الرمال المتحركة العراقية يبرز السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن للاتحاد الأوروبي أن ينهض بالأعباء الدولية ويسد الفراغ الناتج عن تراجع القوة الأميركية على الساحة العالمية؟ لقد أمضيت ستة أسابيع في أوروبا قادتني إلى بريطانيا وبلجيكا... وإلى هنا بشمال فرنسا. والانطباع الذي خرجت به من خلال جولتي الأوروبية هو أن الاتحاد الأوروبي تشقه الانقسامات، كما أنه أكثر انشغالاً بالقضايا الداخلية الضاغطة من أن يوفر بديلاً فعالاً للدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في إدارة الشؤون الدولية. وفي ظل هذا الواقع علينا أن نتوقع بروز كل من الصين والهند للقيام بهذا الدور وصعود نجمهما في المشهد العالمي لملء الفراغ الذي ستخلفه الولايات المتحدة. وبالرجوع قليلاً إلى الوراء وتحديداً إلى عام 1989 سنجد أن سقوط جدار برلين بعث الأمل مجدداً لدى الأوروبيين في تحقيق حلم أوروبا موحدة وحرة تتحول بموجبه إلى قوة ديمقراطية فاعلة في الشؤون الدولية. ومنذ ذلك الحين توسع الاتحاد الأوروبي ليضم حالياً 27 عضواً وليصل عدد سكانه إلى 495 مليون نسمة، ومع ذلك التوسع عمت الفائدة جميع الأوروبيين تقريباً. بعدها شهدت حياة الأوروبيين تغييرات كبيرة، لكنها كانت باتجاه الأحسن في مجملها، حيث أدى تنامي النقل الجوي الرخيص إلى تشجيع الانتقال بين الدول الأوروبية وأصبحت مرونة الحركة داخل القارة سهلة ومتاحة للجميع. وبالطبع لم يكن الوضع دائماً على صورته الإيجابية، حيث أبدى الأوروبيون قبل سنوات قليلة فقط تخوفهم من تدفق العمالة الرخيصة من أوروبا الشرقية والأضرار التي ستلحق بالعمال المحليين في ما اصطلح على تسميته حينها بخطر "السباك البولندي". لكن سرعان ما رحب البريطانيون بالعمال البولنديين ذوي التدريب العالي الذين توافدوا على بلدهم. واليوم أصبح المهاجرون من بولندا ومن باقي دول أوروبا الشرقية مندمجين تماماً في مجتمعاتهم الجديدة داخل أوروبا الغربية. والأكثر من ذلك أن القارة الأوروبية تحولت إلى مصدر جذب للمهاجرين من شمال أفريقيا وجنوبها إما بدافع الفقر، أو هرباً من ويلات الحروب الأهلية التي تعصف ببعض البلدان الأفريقية. في حين فضل البعض الآخر من المهاجرين بيئة العمل الجاذبة وتعويض الخلل السكاني في أوروبا الذي يشهد انحساراً في نسبة الولادات وشيخوخة متصاعدة للسكان. والحال أن هذه الهجرة لم تمر دون إثارة مجموعة من التحديات لدى بعض الدول الأوروبية التي لم تتعود في تاريخها رؤية نسبة مرتفعة من المهاجرين، أو التعايش مع مفهوم التعددية الثقافية الموجود في بلدان أخرى. وفي هذا السياق لاحظت أن مناطق بأسرها في لندن تحولت إلى "برج بابل" حقيقي بسبب اللغات المتنوعة التي يتكلم بها الشباب القادمون من مختلف الأنحاء، والآتين أصلاً لتعلم الإنجليزية والانفتاح على العالم. يشار إلى أنه طيلة إقامتي في فرنسا قمت بتدريس مادة الشؤون الدولية لفترة وجيزة باللغة الإنجليزية في أحد المعاهد الحكومية المهمة في مدينة "ليل". فعلى غرار باقي المؤسسات التعليمية الحكومية الفرنسية شرعت المؤسسة التي درست فيها بإلزام الطلبة باكتساب مستوى معين في اللغة الإنجليزية، وهو تغيير جوهري في بلد يقدس ثقافته. وتستعد فرنسا في هذه الأثناء لخوض الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 22 أبريل، حيث تتنافس المرشحة الاشتراكية "سيجولين رويال"، مع مرشح الحزب الديجولي الحاكم "نيكولا ساركوزي"، بالإضافة إلى مشاركة مرشح اليمين المتطرف "جان ماري لوبن". (ونتذكر جميعاً أن كل هؤلاء المرشحين عارضوا الحرب الأميركية على العراق). من جانبها تتهيأ بريطانيا لخوض انتخاباتها الخاصة التي تكتسي أهمية أكثر مما يتوقع البعض، حيث ستجرى في 3 مايو انتخابات لاختيار أعضاء البرلمان الاسكتلندي الثالث منذ إنشاء هذه المؤسسة عام 1999. وليس مستبعداً أن يطالب البرلمان المقبل بالانفصال النهائي لاسكتلندا عن إنجلترا بعد وحدة دامت ثلاثة قرون. ورغم انزعاج بعض الإنجليز لذلك، إلا أن البعض الآخر يتحدث عن "طلاق مخملي" بين اسكتلندا وإنجلترا على غرار انفصال التشيك والسلوفاك عام 1993. يذكر أن ما يعرقل الاندماج السياسي على المستوى الأوروبي في السنوات الأخيرة هو السياسة الخارجية والدستور الأوروبي. ففي غياب سياسة خارجية موحدة تواصل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي انتهاج طرقها الخاصة، وهو ما أدى إلى تنامي التوتر في العلاقات بين الدول الأعضاء حول أفضل السبل للتعامل مع أزمتي العراق وأفغانستان. في حين يرجع الفشل في المصادقة على الدستور الأوروبي الموحد إلى اختلافات مستحكمة حول مسائل قانونية، لكنه يرجع أيضاً إلى الشكوك التي مازالت تساور البعض حول جدوى المشروع الأوروبي برمته. ومع ذلك نجحت أوروبا في التحول إلى فضاء جاذب ينعم فيه السكان بالرفاهية والازدهار الاقتصادي. ويعكف المسؤولون هنا على إيجاد أفضل السبل للتعامل مع تحديات إدارة الشأن العام وبناء مجتمعات تعترف بالتعددية الثقافية التي تخدم جميع المواطنين، لكن دون أن يتوفر أي حماس، أو رغبة في إدارة شؤون العالم. وفي الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات متعاظمة سواء في العراق، أو في مناطق أخرى من العالم، فهي لن تجد أمامها أوروبا قوية وموحدة قادرة على الوقوف إلى جانبها. ولعل أفضل ما تستطيع أوروبا تقديمه لأميركا هو طمأنتها، من خلال نموذجها على الأقل، بأن الحياة يمكن أن تستمر سعيدة حتى في ظل انكماش مشروع الإمبراطورية الأميركية. هيلينا كوبان كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"