في مقال الأسبوع الماضي تعرضنا إلى ظاهرة العقول المستأجرة، وملخص المقال يكمن في أن بعض المسؤولين لف حوله فئة من العقول الأجنبية، كي تسهم في تطوير العمل في الوزارة أو الدائرة، التي هو مسؤول عنها. وليس في ذلك نقص في هذا الإنسان إذا تم استئجار العقول المناسبة والاستفادة منها بالطريقة التي تحقق أكبر ربح بأقل خسارة، وعندها لن يكون لأحد تساؤل على ذلك، لأن العالم كله رحم للعلم والمعرفة. لكن التحفظ يكمن في أمرين أساسيين أولهما هو قتل تفكيرنا بمجرد استئجار بعض العقول، فيصبح دورنا التنفيذ دون وعي، حيث يلخص دور المدير في تلبية المتطلبات المادية لهذه العقول، والتي ربط بعضها بين تحقيق الإنجاز والدعم المادي فقط، والثاني هو في أن هذه العقول المستأجرة لا تعمل على تطوير العقول المواطنة الموازية لها كي تستفيد من خبراتها. وأحسب أنه يوجد من بين المواطنين اليوم عقول قابلة للتعلم، فما الذي يضر العقل المستأجر في أن يعمل على تطوير عقلين أو أكثر من عقول المواطنين، وعندها سننتقل من مرحلة استئجار العقول إلى الاستثمار فيها، نعم فقد سبقتنا إلى ذلك الكثير من الدول النامية، بل حتى المتقدمة، ففي حالة استقدام خبير أو مفكر أو عقل مستأجر كما سميته يتم ربط هذا العقل بأكثر من شخص مواطن يعيشون معه طوال فترة عمله في الدولة يتعلمون منه صنعة التفكير لأنها من العلوم التي يتم اكتسابها بالصحبة والممارسة، وليس بالتعلم عن بعد أو عبر القراطيس، ويكون ذلك بالتدرج في إعطاء الصلاحيات حتى نصل في نهاية عقد العقل المستأجر أن يكون العقل المستثمر، أي عقل المواطن الخبير، هو صانع القرار. دعوني أكون أكثر واقعية، ففي جامعة الإمارات التي أعتز بالعمل فيها، بلغ عدد الأساتذة المواطنين أكثر من 150 من المتخصصين في شتى جوانب المعرفة والعلم. وقد أنفقت الدولة عليهم بحفاوة وأهلتهم بإرسالهم إلى بعض أفضل الجامعات العالمية، حيث قضى بعضهم عقداً من عمره في البحث والتعلم حتى نال الدكتوراه في ميدان تخصصه، وحتى أصبح بعضهم رمزاً معروفاً في مؤسسات العمل العالمية العاملة في تخصصه. ففي هذا الفصل الدراسي وحده، استقطبت بعض المؤسسات الخاصة في الدولة بعض الزملاء المواطنين من أساتذة الجامعة، ودفعت لهم ما يعادل ثلاثة أضعاف رواتبهم في الجامعة للعمل كخبراء ومستشارين لدى هذه المؤسسات. وهذا دليل واضح على تميزهم، كما أن بعض الأساتذة المواطنين تم التعاقد معهم كخبراء من قبل شركات أجنبية، وهم يقدمون استشارات لدول أخرى، وبعدها نسأل: هل من المعقول أن يكتفى من هذا الإنسان بعد كل هذه السنوات بمجرد التدريس أو القيام ببعض الأعباء الإدارية في جامعة الإمارات. دعوني أقرب المشهد أكثر من ذلك، لو تمكنا على مستوى الدولة من اختيار خمسين من هؤلاء الأساتذة الجامعين من اللامعين في ميادين تخصصاتهم المختلفة، وتم ربطهم ببعض الإدارات والوزارات المحلية والاتحادية، وتعاون هؤلاء مع زملائهم من العقول المستأجرة لتوصلنا إلى أمرين مهمين، أحدهما هو نقل الخبرة العالمية إلى المحلية، ولأن العقل المستأجر ربما يتركنا في أية لحظة وبالذات في فترات الطوارئ لا قدر الله، ففي الرخاء الكل معك، ولكن عند الضراء لن ينفع الوطن إلا أهله، فعندها نكون أعددنا جيلاً من العقول المستثمرة، وهذا ما فعلته بنجاح بعض المؤسسات في الدولة، فلمَ لا تعمم التجربة، وبالذات في المؤسسات الحساسة التي لا تتحمل كثيراً وجود غير أبناء الدولة فيها، كما أن بعض المؤسسات بحاجة إلى دماء مواطنة كي تتم عملية تكييف نقل البعد العالمي، لما فيه خير هذا البلد بعيداً عن الإشكالات الحضارية والفكرية.