قبل أيام قليلة فقط على بدء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التاريخية في فرنسا، قام "نيكولا ساركوزي، "المرشح "المحافظ" والمتقدم في استطلاعات الرأي بزيارة قبر الرئيس الفرنسي الأشهر "شارل ديجول". وحاولت مرشحة اليسار "سيجولين رويال" استمالة أصوات القوى العمالية بإبداء تعاطفها مع مستخدمات أحد الأسواق التجارية في باريس، في حين فضل "الرجل الثالث" "فرانسوا بايرو" تنظيم تجمع حاشد لمؤيديه في ملعب لكرة القدم بباريس ضم أكثر من 17 ألف شخص. ويمكن تفسير هذا الإقبال الفرنسي غير المسبوق على انتخابات 2007 بتلك الرغبة الأكيدة التي تحدوهم لتغيير مسار بلادهم، رغم أنهم لا يعرفون على وجه التحديد الوجهة التي يتعين عليهم اتباعها، أو من هو المرشح القادر على انتزاع فرنسا من نموذج دولة الرعاية القائمة على النهج الاشتراكي. "بينوا" شاب فرنسي يبلغ من العمر 29 عاماً والمحامي بإحدى الشركات يقول في هذا الصدد "أريد أنا وأصدقائي قائداً كاريزمياً، إننا نسعى إلى التغيير، لكننا لسنا متأكدين كيف سنقوم بذلك". والواقع أن ناخبي هذا البلد المعتد بنفسه والقلق على مستقبله في الوقت نفسه، يدركون أن لحظة التغيير الأساسية قد حلت بعد عقود من تأخير الإصلاحات، لاسيما بعد السياسات الاقتصادية المتعثرة والاضطرابات الاجتماعية، الشيء الذي وضع فرنسا أمام مفترق طرق حقيقي. وبالطبع سيلقي الخيار الذي سيسلكه الفرنسيون بظلاله ليس فقط على مستقبل فرنسا، بل أيضاً على مجمل الاتحاد الأوروبي. وقد عاشت فرنسا لأكثر من أربعين عاماً ضمن نموذج اشتراكي لم تبرحه طيلة السنوات السابقة، يسعى إلى توفير حياة الرفاهية للفرنسيين. لكن سرعان ما بدأ ذلك النموذج في التآكل بسبب الأعباء الثقيلة خلال الثمانينيات، ومنذ ذلك الحين والسياسيون الفرنسيون يتلكأون في إجراء الإصلاحات الضرورية. فقد تسبب النموذج الاقتصادي الاشتراكي في تعاظم الديْن الفرنسي، وتنامي الشكوك حول القدرة التنافسية الفرنسية. وتضاف إلى ذلك الاضطرابات التي بدأت تشهدها ضواحي المدن الكبرى بسبب تركز عدد كبير من المهاجرين وعجزهم عن الاندماج في المجتمع. وفي هذا الإطار يقول أحد المستشارين في الحكومة الفرنسية: "إن عصر الاشتراكية الذي كان سائداً في عهد الرئيس ميتران قد ولى دون رجعة"، مضيفاً أن "السياسيين سواء في اليسار، أو اليمين يريدون شيئاً جديداً، لكنهم لا يعرفون بعد ما هو بالتحديد، إنه شعور جديد ساهمت الانتخابات الحالية في إيقاظه لدى الفرنسيين. وهو ما يعني أن السياسة لم تمتْ بعد في فرنسا". ويتنافس في الانتخابات الرئاسية 12 مرشحاً سيتقلص عددهم إلى اثنين فقط بعد يوم غد الأحد، حيث سينتهي التنافس بين المرشحين إلى الجولة الثانية التي ستعقد في السادس من شهر مايو المقبل. وبالنسبة للعديد من الناخبين الفرنسيين، يُعد المرشحون هذه المرة وجوهاً جديدة بالقياس إلى السياسيين السابقين مثل "جاك شيراك"، الذي تردد اسمه في لوائح الانتخابات الفرنسية منذ 1969، وظل مشاركاً عنيداً إلى أن دخل قصر الإليزيه. ويرى "آرون كابيل"، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في باريس أن "جميع المرشحين في الخمسينات من عمرهم، لكن لا ندري ماذا سيقومون به بعد الانتخابات"، مستطرداً أنه "لم تبرز خلال الحملة الانتخابية أية قضية جوهرية، فضلاً عن أن السياسة الخارجية وأوروبا ظلتا غائبتين عن النقاش العام. كما أن المرشحين الرئيسيين ساركوزي ورويال لا يجيدان اللغة الإنجليزية، وستكون تلك المرة الأولى في التاريخ الفرنسي المعاصر". ومن بين جميع المرشحين يبرز "ساركوزي" باعتباره الأكثر جرأة، حيث تعهد وزير الداخلية السابق أمام الناخبين بأنه سيعيد "فرنسا إلى الطريق الصحيح"، بالإضافة إلى إجراء إصلاحات اقتصادية مهمة، والحرص على فرض النظام والقانون في المناطق المضطربة. وهو يسعى من خلال أسلوبه الحماسي إلى إقناع الفرنسيين بأنه يتحلى بالقوة والذكاء الكافيين للوفاء بتعهداته، غير أن أجندته "الليبرالية" تجعله مكروهاً جداً من قبل "اليساريين" الذين ينظرون إليه باعتباره ليبرالياً وصولياً ستقود سياساته إلى تأجيج التوتر الاجتماعي داخل فرنسا. وتكشف استطلاعات الرأي أنه مازال يتقدم بأربع إلى خمس نقاط على منافسته "رويال". من جهتها تتعهد مرشحة الحزب الاشتراكي بإحلال التغيير، لكن من داخل النظام نفسه. وبعبارة أخرى ستسعى "رويال" إلى تطوير الأوضاع في فرنسا اعتماداً على ما تملكه فرنسا مسبقاً. غير أن وصفها بـ"توني بلير فرنسا" يخيف الجناح الراديكالي داخل الكتلة "اليسارية" التي تخشى على النموذج الاجتماعي للدولة الفرنسية. ويرى المراقبون أنه لكي تتأهل "رويال" إلى الجولة الثانية، عليها أن تضمن أصوات الطبقة العاملة الفرنسية ذات النفوذ الكبير في الحياة السياسية. أما المرشح الثالث "فرانسوا بايرو"، فيقدم نفسه للناخبين باعتباره الرجل القادر على التوفيق بين السياسة الاشتراكية الساعية إلى تغيير الأوضاع من خلال تحسين فاعلية نظام الرعاية الحالي، والأجندة الليبرالية التي يتبناها "ساركوزي". ويسعى "بايرو" إلى الظهور بمظهر السياسي العارف بخبايا السياسة الفرنسية والقادر على مد الجسور بين "اليسار" و"اليمين" في بوتقة واحدة تخدم فرنسا الموحدة. ومع ذلك تبقى تصريحات "بايرو" الذي يتزعم حزب "الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية" الصغير في فرنسا حول التقريب بين الأجندات المختلفة محط شك من قبل المراقبين بالنظر إلى نفوذ حزبه المتواضع في الحياة السياسية الفرنسية. وتحتدم النقاشات بين الشباب في المقاهي الباريسية حول لمن سيمنحون أصواتهم: لـ"سيجولين رويال"، أم "لفرنسوا بايرو" في الجولة الثانية لمواجهة مرشح "اليمين" الأوفر حظاً "نيكولا ساركوزي". لكن مع ذلك مازالت هناك أغلبية صامتة يتوقع المراقبون أن أصواتها كفيلة بترجيح كفة مرشح على حساب الآخر، أو خلق مفاجآت كتلك التي شهدتها الانتخابات السابقة عندما تمكن مرشح اليمين المتطرف "جان ماري لوبن" من الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات. ـــــــــــــــــــــــــــ مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في باريس ـــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"