زرت إيران عدة مرات بعد الثورة الإسلامية بدعوة رسمية لحضور مؤتمرات علمية لكن زيارتي الأخيرة لعدة أيام كانت خاصة وتركت لدي انطباعات أود مشاركة القراء فيها، لعلها تساهم أكثر في زيادة التقارب بين الشعب الإيراني والشعوب العربية. زيارتي الأخيرة كانت إلى طهران العاصمة وهي مدينة كبيرة مزدحمة بالسكان والسيارات وملوثة وممتدة وزاد عدد سكانها بعد الثورة ليصل إلى حوالى 12 مليون نسمة، لكن ذلك لا يمنع من التعرف على شعبها الطيب والكريم والمثقف ثقافة عالية. من أهم الانطباعات التي تركتها هذه الزيارة القصيرة أن الإسلام في هذه الجمهورية يختلف اختلافاً جذرياً عن الانطباعات التي خلقها السياسيون الإيرانيون عن بلدهم. فالممارسة الدينية لديهم رغم كون الدولة إسلامية مذهبية إلا أنها منفتحة وإطارها الديني وسطي معتدل لا يوجد فيه تزمت مذهبي أو طائفي بغيض، على عكس ما لدينا من ممارسات دينية في الخليج خصوصاً بين الشيعة. تفكير بعض مشايخ الدين الشيعة وسياسييهم في الخليج أقرب إلى السلفية في ممارساتهم للعبادات من إيران، ففي الخليج نجد مشايخ الدين الشيعة ونوابهم سواء في البحرين أو الكويت يحرمون الفن ويسعون لمنع الموسيقى والرقص والأدب والثقافة، والدليل على ذلك ما أثارته الأغلبية النيابية الشيعية في البحرين في مهرجان الثقافة لديهم في شهر فبراير الماضي، عندما عارضوا الاستعراض الموسيقي الراقص "مجنون ليلى"، ورفضوا انتشار الثقافة والفن، وحاربوا الانفتاح الثقافي على الحضارات الإنسانية الأخرى.. وفي الكويت نجد أن نواب مجلس الأمة بسُنتهم وشيعتهم لا يختلفون عن إخوتهم في البحرين. من المفارقات أن إيران الإسلامية تعتبر الموسيقى والفن والأدب والثقافة بكل أنواعها جزءاً أساسياً من الحياة الإيرانية ولم تتغير في عهد الجمهورية الإسلامية، ففي بعض المطاعم والمقاهي توجد فيها فقرات موسيقية من التراث وبترخيص من وزارة الثقافة والشؤون الدينية. فالدين في إيران يعتبر شيئاً فردياً خاصاً ولا ينعكس كإطار للعلاقات الاجتماعية التي تحكمها منظومة العلاقات الاجتماعية والأمثلة على ذلك كثيرة.. لا يوجد تزمت ومغالاة في لبس الحجاب في إيران، فهو يعتبر حشمة وليس قيداً إلى درجة أن الحجاب الإسلامي حوله الإيرانيون إلى مظهر جمالي لا يشعرك بوجود قيود دينية. المقاهي والمطاعم والمحلات ومجالات العمل كلها مختلطة، فالرجال يمسكون بأيدي زوجاتهم ويتمشون بالشارع.. هنالك ثقة عالية بالمرأة لدى المجتمع الإيراني.. وذلك لا يعني عدم وجود المتزمتين من رجال الدين.. كم كنت أتمنى أن يتعلم بعض رجال الدين السُّنة والشيعة في الخليج من نظرائهم في بعض الدول الإسلامية ومنها إيران لكي تكون للدين والمذهب قيمة حضارية وثقافة إنسانية تؤكد نظرية أن التنوع الديني والمذهبي يعتبر عنصر قوة للمجتمعات الإنسانية وليس عامل ضعف لها. لقد اتهمت الأصولية الدينية في الخليج شيعة بلدانها بأنها تابعة لإيران، لكن من يتابع تصرفات وحدة أطروحات السياسيين الشيعة في الخليج يرى أنهم متأثرون بالأصولية السُّنية أكثر من المرجعية الشيعية في إيران. وهذا يدل على أن المتطرفين السُّنة والشيعة في الخليج في تطرفهم ومغالاتهم في الدين ينتمون إلى مدرسة وأصول واحدة. وجدت أن الشعب الإيراني شعب مثقف يحب القراءة، والدليل على ذلك انتشار المكتبات ودور النشر ومراكز الترجمة المتعددة، ولديهم 50 صحيفة يومية واسعة الانتشار تصدر يومياً منها 3 صحف عربية وأخرى باللغة الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى، مما يدل على تنوع الثقافة وتعددها في ظل الجمهورية الإسلامية. ما نحتاج إليه في الخليج تكثيف تبادلنا الثقافي والعلمي والأدبي والسياحي مع إيران حتى نتفهم مجتمعهم أكثر، وحتى نتعرف على طبيعة هذا الشعب الطيب المسالم بعيداً عن السياسة وقضايا الأمن. فالتقارب ما بين الشعوب هو أفضل ضمان لاستقرار الخليج وتفادي ويلات الحروب. د. شملان يوسف العيسى