مما لاشك فيه أن سوء الحالة الاقتصادية والاجتماعية يؤدي إلى الإحباط الذي يقود بدوره إلى العدوان. وثمة ما يدفع إلى هذا الاتجاه من أفكار وفتاوى تحفِّز على العدوان والاعتداء على أمن الآخرين، من قبيل ما وقع في الجزائر والمغرب من أعمال إرهابية. ولكن، في سبل تحليل هذه الظاهرة نعتقد أن الطرح ليس هنا، بل هو في ذلك السجال الفكري الذي يستند إلى محورين أساسيين هما "سلوك العقيدة" و"عقل العقيدة" اللذان يشكلان مَظْهري العقيدة نفسها ويسمحان بتتبُّع أصحابها الذين ينقسمون وفقهما إلى فئتين اجتماعيتين متعارضتين، وهو أيضاً طرح يحاول قدر الإمكان الإبحار في حراك اجتماعي عقائدي. ولبيان ذلك فإنه لابد من التمييز بين المحورين، فسلوك العقيدة يحملُ بطبيعة الحال أداء الفرائض والسنن وأمثالها، وهي نقطة يشترك فيها مع عقل العقيدة. إلا أن السلوك العقيدي يزداد اتضاحاً لدى أصحاب المال والأثرياء في رؤية تعبِّر بوضوح متناهٍ عن اللهث وراء الملذات والربح من باب الحلال. وهذا السلوك ليس عدوانياً بل إنه يبحث عن المكتسبات المادية والمعنوية ويدور حولها محاولاً إبعاد الشبهات من خلال سعي أصحاب المال، ذوي السلوك العقيدي، إلى الحصول على فتوى من المشرِّعين تُضفي على نشاطهم صبغة الحلال وتُلصق بالمشرِّعين وزر الشبهة في أمور كثيرة منها زواج المتعة والمنظومة المصرفية الشرعية. وهذه الفئة الاجتماعية المعبِّرة عن سلوك العقيدة فئة كبيرةٌ جداً، تتوزع هنا وهناك، في بلدان تُرفع فيها مآذن الرحمن، وحتى في بعض البلدان التي يُضرب فيها ناقوس الكنائس. وإذا عنَّ لنا أن نسوق مثالاً صارخاً، فليس أدلَّ من تحوُّل العديد من المصارف المتوزِّعة في كثير من بقاع العالم، بل وذات المنشأ الغربي أيضاً، إلى إنشاء أقسام مختلفة للودائع والقروض وتمويل المشاريع التجارية والاستثمارية برائحة إسلامية، فهذه المصارف تجيد قراءة ذوي السلوك العقائدي وأيضاً هنالك الشركات المساهمة الإسلامية. وليس لهذه الجماعة، فئة السلوك العقيدي، سوى علاقةٍ تكاد تكون نظرية اجتماعية خاصة بها تقضي بأنه كلما ازداد الثراء ازداد الاتجاه نحو الحفاظ على الذات والجسد وتتبُّع الحلال ما استطاعوا إليه سبيلاً... وليس ثمة أدنى شك في أن هناك حالاتٍ استثنائية. وإذا كانت هذه هي سمة محور "السلوك العقيدي" المتعلقة بمكتسبات المادة وطرق الربح وأبواب التشريع (الحلال والحرام)، فإن "العقل العقيدي" الذي يمثل الفئة الاجتماعية الثانية نابعٌ من حمل أثقال المعرفة والحقائق ذات الطابع الإنساني والفكري مع ما يتسم به من ضعف مادي وقلة حيلة في إيجاد دور له للتفاعل مع المجتمع الغارق في منظومته السلوكية العقيدية البعيدة عن الإطار العام الإنساني الذي ينشده العقل العقيدي. وبذلك يتحول العقل المفتون بأفكاره وبما يعتقد ويتأمل ويتمنى، بعيداً عن الواقع الذي يخالف ما يعتقد ويحارب ما يتأمله ويقتل ما يتمناه، إلى أداةٍ تُدبِّر وتخطط وتصارع وتدمّر مجتمَعَها، وحتى نفسها، في سبيل العقل العقيدي وما يحمل من أثقال تجاوزت القدرات الذاتية والمادية لأصحابه. فهذا العقل يسعى إلى دورٍ لتغيير الواقع أو القيام بشيء يؤدي إلى تغييرٍ أو زعزعةِ من يخالفه أو إلى منتهى ما يتأمله لدى أصحاب هذه العقول. وإذا كان هدف العقل العقيدي الحلول محل غريمه، السلوك العقيدي، فإن ذلك لا يتم إلا بالقضاء على فلسفة الملذات والمكاسب المادية التي يقوم عليها هذا الأخير. ومن ثم فإنه يحقق مكاسبَ سياسية وعقيدية لذاته باسم كل الدعاوى الإنسانية، وإن كانت في واقع الحال على حساب حياة الآخرين واستقرار المجتمع، بل إن فلسفة الهدم التي يقوم عليها تطال دائرة أصحاب العقول أنفسهم وتلصق بهم تهم العمل العدواني والخروج أيضاً عن روح العقيدة... وهكذا فإنه بدوره يهدم من حيث يريد البناء! السلوك العقيدي مُنصَبٌّ على الحفاظ على الذات، دائبُ البحث عن تشريع يحلل سلوكه في تجلياته المختلفة... إنه محكوم بالغرائز الجسدية الطبيعية وما فوق الطبيعية، "المشروعة"، وتقديس الحياة وحب المكاسب المادية والملكية الفردية، ويعزز ذلكَ التوجهَ ويقدِّم الحجة ويقوِّيها ببعض التبرعات والأعمال الخيرية. ويُقطَع الشكُّ باليقين لدى البعض ببناء المآذن وكأنها تؤذِّن لهم "الله أكبر والحق أنتم"، أما مآذن العقل العقيدي فكأنما تؤذن "الله أكبر والعدالة أنتم"! الواقع أن جسد الإنسان محكومٌ بعقلهِ وسلوكهِ، عقل يرى السلوك ويسعى إلى كفِّ ملذَّاته وسلوك غارق فيها ويرفض العقل. ولكنْ مَن يراك أيها العقل؟ ومن ذا الذي يمكنُه وقف مَوْجِك الهادم لكل مقومات السلوك؟ عين العقل ألا أحد يستطيع أن يقول إن هذا البحر العقيدي الغزير العميق لا يحوي هذا الكائن أو تلك النبتة أو هاتيك الأسماك المختلفة، وكل فئة يُمكنُها أن تجد ضالَّتها فيه وتغترف منه ما يَسنِد دعواها. وعَودٌ على بدء، إن تفسير الكثير من الباحثين الغربيين لظاهرة الإرهاب التي تعتمر عباءة الإسلام بأنه ظاهرة مضادة للعولمة وأن إمكانية دخولها وتطبيقها مرتبطة بالنظم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أيضاً ليس سوى تأكيدٍ لوجود "عقل عقيدي" يرفض هذه المنظومة المختلفة والمتضاربة معه في شتى المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، أما "السلوك العقيدي" فإنه يقبلها ويتعاملُ معها من منظور الربح والخسارة ويطرق من أجلها كل أبواب التشريع التي تزيِّن له السبل. إنها جدلية الإنسان نفسِه المتلمِّس دوماً طريقه في ظُلمات السلوك والعقل، الغارقِ في عالمه المعقَّد... يتعثر هنا ليقوم هناك، معلَّقٌ بين تحقيق رفاهه والاطمئنان إلى صورته التي ينبغي أن تُغَلَّف بأسمى آيات العرفان وحسن الامتنان وبين عقل يدعي التعفف ويربأ بنفسه عن الدنايا... والحقيقة أن كلا الطرفين، السلوك العقيدي والعقل العقيدي، يكذبان لكي يريا دنياهما حلالاً... و"كل حزب بما لديهم فرحون".