قبل شهر فقط كان البنك الدولي يستعد للضغط مجدداً، وبحماس متوقد، للدفع بمعركة محاربة الفساد باعتباره المعضلة الأولى التي تعرقل مسيرة التنمية الاقتصادية في العديد من دول العالم. واليوم تلف تلك الجهود ظلال كثيفة من الشك بسبب الاتهامات التي تعصف بالمؤسسة المالية الدولية المفترض اضطلاعها بتلك المهمة. وتتلخص القضية محط الجدل داخل أروقة البنك الدولي في ما إذا كان رئيسه "بول وولفوفيتز" قد أساء التصرف من خلال توظيف وتخصيص راتب مجزٍ لرفيقته المقربة "شاها رضا". ويبدو أن القضية تنطوي على تعقيدات من الصعب فك خيوطها، لا سيما في ظل الاتهامات الموجهة ضد "وولفوفيتز" ورد المدافعين عنه بأن المسألة برمتها مرتبطة بصراع سياسي ولا علاقة لها بالاعتبارات الأخلاقية. لكن الأكيد أن الاتهامات التي سيقت ضد رئيس البنك الدولي تشكل ضربة قاسية لجهوده الرامية إلى محاربة الفساد، خاصة وأنه يعتبرها العنوان الأبرز لفترة على رأس البنك، فضلاً عما يقوله لخبراء من أن العالم في حاجة ماسة لمثل تلك الجهود للدفع بعجلة التنمية الاقتصادية في العديد من الدول الفقيرة. وفي هذا السياق يقول "فرانك فوجل"، أحد مؤسسي منظمة الشفافية الدولية في واشنطن "علينا أن نشعر بقلق بالغ جراء الانتشار الواسع للفساد في العالم"، لما ينجم عنه من تداعيات واضحة تتمثل في زيادة الفقر وتنامي الأمراض، فضلاً على تراجع التعليم وانعدام المياه النظيفة في الدول الفقيرة والهشة. ومع أن مشكلة الفساد هي أوسع وأكثر رسوخاً في التاريخ، إلا أن البنك الدولي باعتباره المؤسسة المالية الأكثر مسؤولية عن تقديم المساعدات للدول الفقيرة، يلعب دوراً محورياً في الحد من الفساد، أو التشجيع عليه. فحسب الخبراء ساهم البنك الدولي في تكريس آفة الفساد في الدول النامية التي يفترض به مساعدتها على تحقيق التنمية. فمنذ تأسيسه عام 1944 والبنك الدولي ينفق مليارات الدولارات سنوياً في شق الطرق وإقامة البنية التحتية في الدول الفقيرة، لكنه يرفض فكرة التدخل للحؤول دون إهدار تلك الأموال في شكل رشاوى، أو اختلاسات باعتبار أن ذلك خارج نطاق صلاحيته. والأكثر من ذلك أن البنك الدولي الذي يعتبر المؤسسة المالية الأولى كان بإمكانه لعب دور أكبر في مراقبة المساعدات المالية التي يقدمها للدول النامية، والتأثير على الحكومات من أجل توظيف أفضل لتلك الأموال وتوجيهها لأغراض التنمية. واليوم وبعد تصاعد الجدل الدائر حول "بول وولفوفيتز" يمر البنك الدولي برمته بأزمة حقيقية تتعدى رئسيه، وما إذا كان أساء التصرف، لتمتد إلى مدى قدرة البنك الدولي على معالجة المشكلة في بيئة لا تخلو من اعتبارات سياسية. ويذكر أن مجلس إدارة البنك الدولي قام بتعيين لجنة مكلفة بإجراء تقييم عاجل للقضية والتأكد مما إذا كان "وولفوفيتز" قد أقدم على نقل موظفة البنك السابقة "شاها رضا" إلى وظيفة جديدة في وزارة الخارجية الأميركية بعدما كشف للجنة الأخلاق في البنك عن طبيعة العلاقة التي تجمعهما. ولن تقتصر اللجنة المشكلة، حسب بعض التقارير، على القضية الحالية، بل ستنظر أيضاً في شكاوى أخرى مرفوعة ضد "وولفوفيتز". وفي هذا الإطار يقول السيد "فوجل" المتحدث السابق باسم البنك الدولي "إن مصداقية القائد في محاربة الفساد يلحقها ضرر بالغ إذا تبين أنها تخالف قواعد الحكومة الرشيدة. فالمشكلة خطيرة وتتطلب حلاً سريعاً وشفافاً". وتأتي هذه الأزمة بعد شهر فقط على إصدار البنك الدولي لتقرير شامل حول استراتيجيته لمحاربة الفساد وتعزيز الحكومة الرشيدة، وهي القضايا التي حظيت بمناقشات محتدمة خلال السنتين الأخيرتين اللتين قضاهما "وولفوفيتز" على رأس المؤسسة الدولية. وتعتبر مشكلة الفساد آفة تنخر في أوصال أغلب بلدان العالم، حسب مسح أجرته منظمة الشفافية الدولية كشف أنه من بين الدول التي شملتها الدراسة يتفشى الفساد في نصفها تقريباً. ويمتد الفساد من القطاع الخاص إلى القطاع العام، كما يمس جميع التيارات الأيديولوجية دون استثناء، وللتأكد من مدى انتشار الظاهرة يكفي النظر إلى التقارير الإخبارية الصادرة خلال الشهر الفائت. ففي تايوان يَمثل المرشح الأول للانتخابات الرئاسية أمام المحكمة بتهم تحويل 300 ألف دولار من المال العام إلى حسابه الخاص. وفي أفغانستان يقول المواطنون بأن مسؤوليهم الحاليين هم أكثر فساداً مقارنة مع حكام "طالبان"، أو أسلافهم المدعومين من قبل الاتحاد السوفييتي. ولم يسلم من آفة الفساد حتى الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة التي تواجه فيها الجامعات فضيحة تورط المسؤولين عن تقديم المساعدات المالية إلى الطلبة في ربطهم علاقات خاصة مع مقرضين محتملين وتوجيه الطلبة إلى أبوابهم. ويؤكد "رايماند بايكر"، أكاديمي في مركز السياسة الدولية بواشنطن أن مشكلة الفساد وصلت إلى مستوى من التغلغل في مفاصل الدول والمؤسسات لدرجة أصبحت تهدد معه مستقبل النظام الرأسمالي في القرن الحالي. ويكمن الخطر في استمرار معاناة العديد من سكان العالم تحت وطأة الفقر بسبب التحويل غير الشرعي للأموال. وإدراكاً منه بخطورة الوضع بدأ البنك الدولي في التحرك للتصدي للفساد ووضع الضوابط قبل تقديم المساعدات، وهو ما حدا بالرئيس السابق للبنك الدولي "جيمس ولفينسون" بوضع مشكلة الفساد في سلم الأولويات. وقد ذهب "بول وولفوفيتز" مع وصوله إلى رئاسة البنك بموضوع محاربة الفساد إلى أبعد الحدود، حيث انخرط نتيجة سياسته المتشددة لمنح القروض إلى الدول في معضلة أخرى تمثلت في كيفية التوفيق بين أولوية مكافحة الفساد والاستمرار في تقديم المساعدات للدول الفقيرة. وفيما يتعلق برفيقته "شاها رضا" التي يدور حولها الجدل فقد سبق لـ"وولفوفيتز" أن كشف للبنك عن علاقته بها عام 2005 وطلب إعفاءه من اتخاذ أي قرار بشأنها. لكن حسب تقارير إعلامية طالبت لجنة الأخلاق في البنك من "وولفوفيتز" ترتيب مغادرتها للبنك وإرضائها بعلاوة، أو ترقية حتى لا يقع الضرر على مشاورها المهني بعد ذلك. وهكذا نُقلت "رضا شاها" إلى وزارة الخارجية وارتفع راتبها إلى 180 ألف دولار بعدما كان لا يتجاوز 133 ألفا كمستشارة لدى البنك مسؤولة عن منطقة الشرق الأوسط. مارك ترامبول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر الشؤون الخارجية في "كريستيان ساينس مونيتور" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"